السبت، 18 ديسمبر 2010

دروس عاشوراء

درس الإصلاح والأمر يالمعروف والنهي عن المنكر


السيد محمد الياسري
يستفز السؤال الكبير عقل الباحث .. عن حقائق وملابسات ملحمة عاشوراء الدامية الخالدة . وماسعت إليه من أهداف .. وما إنطوت عليها من أسرار ؟ ..

  وهنا تشرأب أعناق بعض المفردات وتشمخ مفاهيم وقيم كان لها حضورها في خطاب بطل الملحمة الأول ورائد الثورة .. مما يبين موقعية وأهمية خاصة لتلك المفردات والمفاهيم والقيم في أفق النهضة أو الثورة أو ماشئت فعبر .. 
فماهو عماد الثورة وماهو أساسها وسر إنطلاقها الأول ؟ هل هو رسائل أهل الكوفة ؟ كما تصور البعض وتسائل آخرون .. وهل هو رفض إعطاء البيعة ليزيد ؟.. 

    نعم كان لكل تلك المسائل وغيرها حضورها في واقع الحال .. لكن الإمام الثائر كان بعيد المدى شديد القوى كأبيه "عليهما السلام " فهو رجل الفعل وليس رد الفعل ..  ففعله كان صيحة حق بوجه باطل قد إستشرى وإنحراف خطير قد أصاب مسيرة الإسلام الأصيل وخط الخلافة الإسلامية .. بعد أن حولها معاوية بن أبي سفيان الى ملك عضوض .. أورثه لأبنه المراهق الذي لايراعي الضوابط الشرعية ولاالعرفية مستندا الى زمرة منسلخة من كل قيمة إنسانية فضلا عن الإسلامية .    فالخلافة أصبحت سلطة جائرة ظالمة مترفة فاسقة وقحة عصبية قبلية .. وهو خطر ينذر بالقضاء على الإسلام . 

  من هنا كان خروج الإمام ع من مدينة جده الى مكة ثم الى العراق فعلا ورد فعل .. وقد قطع حجه ليؤكد أهمية الرسالة التي يحملها .. فهل يطوف حول البيت وهناك من يطوف حول قصور الظالمين ؟ وهل يقبل الحجر الأسود وهناك من يقبل الأيدي الآثمة ؟ وهل يركع ويسجد عند مقام إبراهيم وهناك من يركع ويسجد عند أقدام السلاطين؟ وهل يسعى بين الصفا والمروة وهناك من يسعى بين ظالم وظالم لخراب البلاد والعباد؟ وهل يلبي وهناك من يلبي نداء الطاغوت ؟ وهل يذكر ويتلوا ويسبح لله تعالى وهناك آلهة مزيفة من البشر في جاهلية ثانية وهي جاهلية الإنقلاب على الأعقاب .. بعد أن كانت من الحجر في الجاهلية الأولى ؟    وأي قيمة ستبقى لكل تلك العبادات مع وجود ذلك الإنحراف الكبير .. فلابد من تغيير ولابد من إصلاح ولابد من أمر بمعروف ونهي عن منكر ..

  ولذلك أوضح الإمام الثائر الناهض الهدف الأساس لتحركه في رسالته الى أخيه محمد بن الحنفية وكان مصابا بشلل في يديه لا يقوى بسببه على الجهاد فتركه في المدينة وكتب له موصيا ((هذا ما أوصى به الحسين بن علي أخاه محمدا المعروف بإبن الحنفية .. ـ حتى يصل الى قوله ـ إني ماخرجت أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي رسول الله وأبي علي بن أبي طالب )) .  فيتضح أن هدفه الأساس هو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. إصلاح ما أفسده بنو أمية في أمة جده .. 

  فأولئك الناس الذين يطوفون ويركعون ويسجدون للظالمين .. لاأقل يدعون أنهم أمة جده .. وقد ظلوا الطريق خوفا أو جهلا أو طمعا .. ((قلوبهم معك وسيوفهم عليك )) .

  وقيمة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمة عليا متقدمة على غيرها ..        ((ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقران ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين )) التوبة 111/ 112 .    كما بين الإمام الشهيد "ع" الأساس النبوي لثورته التغييرية ونهضته الإصلاحية  .. ناقلا قول النبي المصطفى ص ((من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله .. )) 
وعنه "صلى الله عليه وآله وسلم" ((إذا تواكلت الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)) . 
  وأكثر من ذلك كما أسلفنا في الإستشهاد بالقرآن الكريم فقد إستند الإمام في دعوته التغيرية الإصلاحية التقويمية وفي أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن النكر الى صريح الكتاب الكريم .. 

  قال تعالى ((فلولا كان من القرون من قبلكم اولوا بقية ينهون عن الفساد في الارض الا قليلا ممن انجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين )) هود116. 

وقال سبحانه ((كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )) المائدة79. وقال تبارك أسمه ((ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون))آل عمران 104. 

  وقال عز وجل ((لا خير في كثير من نجواهم الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه اجرا عظيما)) النساء 114. 

  وقال ذو الجلال ((قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب)) هود 88. 

  وقال ذو الإكرام((يا بني اقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما اصابك ان ذلك من عزم الامور))17لقمان.    وقال أيضا ((كنتم خير امة اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو امن اهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون واكثرهم الفاسقون))110. 

  وقال أيضا((يؤمنون بالله واليوم الاخر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين)) 114آل عمران. 

  وقال أيضا((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم)) 71التوبة .    وقال أيضا((الذين ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاة واتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور))41الحج . وليس مسألة فرعية يمكن نفيها أو حذفها أو تغييبها .. بل هي حاضرة على الدوام في كل زمان ومكان ..

السبت، 11 ديسمبر 2010

درس الهجرة الى كربلاء


درس الهجرة الى كربلاء
السَيد مُحَمد الياسِري

   الهجرة .. درس بليغ من دروس عاشوراء .. وقد لازم درس الثورة على طول المسار الطويل لصراع الحق مع الباطل والخير مع الشر ..
   والهجرة لغة " كما جاء في لسان العرب لإبن منظور وتاج العروس للزبيدي " مادة (هجر) الهجر ضد الوصل هجره يهجره هجرا وهجرانا وهما يهتجران يتهاجران وفي حديث          " لاهجرة بعد ثلاث" .
  أما الهجرة في الإصطلاح الشرعي فهي الخروج من دار الحرب الى دار الإسلام .. وقال إبن العربي وإبن قدامة .. هي الخروج من دار الكفر الى دار الإسلام .. وقالوا هي الإنتقال من مواضع الشرك والمعاصي الى بلد الإسلام والطاعة ..
   وتلك هي الهجرة المباركة التي دعا لها صريح الكتاب الكريم .. قال تعالى ((إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ))النساء97.
   وهناك هجرة إرادية وأخرى غير إرادية .. ولعل هبوط  آدم النبي ع كان أول هجرة غير إرادية . كما أن للأنبياء والرسل هجراتهم .. كنبي الله نوح ع الذي جاء قومه الطوفان .. ونبي الله إبراهيم الذي هاجر وزوجه هاجر وولده إسماعيل الذبيح الى واد غير ذي زرع .. ووضع القواعد وأذن في الناس بالحج .
   وخرج النبي موسى ع من مصر لأن فرعون وأتباعه كانوا يريدون قتله .. قال تعالى ((فخرج منها خائفا يترقب)) القصص 21.
   وأشهر هجرة .. سجلت في تاريخ البشرية وأحدثت تحولا في حياة الناس .. هي هجرة النبي الخاتم محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" من مكة الى يثرب .. المدينة المنورة لاحقا.. وكانت تكليفا إلهيا وليست تشريفا كما حصل في الإسراء والمعراج .
   وقد أبلغ إبن عمه وصهره وخليفته من بعده الإمام علي بن أبي طالب "ع" بمؤآمرة قريش التي تستهدف الرسالة الإسلامية بإستهداف حياة رائدها .. فقد دبروا له مكيدة في إجتماع تم بدار الندوة بتحريض من أبي سفيان وأبي جهل .. خططوا خلاله لإستهداف النبي وإشراك جميع قبائل المشركين في مكة ليضيع دمه بين القبائل ..
   وبأمر إلهي ((وماينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )) طلب من أخيه ووزيره علي ع أن يبيت على  فراشه .. فقال له أوتسلم يارسول الله : قال نعم قال : إذن إذهب .. ولذلك يشير القرآن الكريم ((وإذ يمكر الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )) وفي ذلك نزلت الآية ((ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضاة الله إن الله رؤوف بالعباد)) .
   تلك هجرة كانت في السادس من ربيع الأول للحفاظ على أرواح المسلمين الأوائل وكانوا فئة قليلة .. وللحفاظ على الأمر العظيم الذي سبق أن ساومته عليه قريش فرد بقولته الشهيرة "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري... "
  تلك هجرة كانت للحفاظ على الأرواح من أجل الحفاظ على الإسلام .. وهجرة ثانية كانت للتضحية بالأرواح لتلافي التضحية بالإسلام .. وهي تكليف إلهي وواجب شرعي أيضا .
   وهي هجرة الحسين بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله من المدينة الى العراق .. فبعد أن أحدق الخطر بالإسلام وكاد أن يقضي على معالمه .. كان لابد من هجرة ولابد من ثورة ولابد من دم طاهر يوقظ الضمائر وشهادة مقدسة ترد المعالم من الدين .
   فالحزب الأموي قد تسلق الى كرسي الخلافة الإسلامية بالتلاقف الذي هتف به أبو سفيان "تلاقفوها ياآل أبي سفيان" .. "فأصبح التوحيد ستارا للشرك ، والإسلام يعني الإستسلام للحاكمين ، والسنة قاعدة للسلطة ، والحديث عرضة للوضع والتزوير والتحريف ، وبعض أصحاب السابقة تقاضوا ثمنهم ولايات وأمارات ، وإعتزل فريق وفريق ساوم ، والسابقون السابقون أولئك المبعدون المنفيون الى صحراء الربذة المجزرون في مرج عذاء المساقون الى قصر الخضراء .
   فمن لدين الله وهاهو ينتهك ؟ ومن لعباد الله وقد أجبروا على عبادة طاغية الشام يزيد ؟ وماذا ينتظر إبن محمد وعلي ؟ فسطع ضوءه في ظلام مطبق وبانت ملامح الأمل الجديد ..
   الكل يعرفه .. ويعرف مكانته العالية عند رسول الله القائل ((حسين مني وأنا من حسين )).
   فهاهو يستعد لكتابة قصة الفداء بدمه على تراب كربلاء .. ((ألا وأني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما )) .
  الكل يعرف من هذا الذي يحمل روحه على راحه .. والكل يعرف من هذا الذي أعاد صوت محمد بعد أن كاد يتلاشى .. إنه إبن بنت النبي الوحيدة .. إنه إبن فتى الإسلام وليث الوغى الذي شهدت له ساحات بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين والبصرة وصفين .. والكل يعرف من هو علي جيدا ..
   فها هو الحسين يهاجر ثائرا من أجل رسالة جده السماوية لئلا تنطمس .. وهاهو يهاجر ثائرا من أجل الفقراء والمستضعفين والمحرومين والمعذبين الذين يساقون سوق الغنم الى قصر الخضراء .
  هاجر الى العراق بعد أن بعث الى أهل الكوفة إبن عمه وأخاه وثقته من أهل بيته مسلم بن عقيل الذي تخاذل عنه الناس وتكالب عليه المجرمون إبن زياد وجلاوزته .
   هاجر الى العراق والمنادي ينادي القوم يسيرون والمنايا تسير معهم وهو يسترجع وعلي الأكبر لا يبالي بالموت محقا .. لايبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه .
   كان أبو عبدالله مهاجرا الى الشهادة فهو على موعد معها وعلى يقين بها وهي في ثقافته زينة الرجل الثائر (( خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة .. وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلاء )) .
   فهي إذا هجرة مقدسة ملازمة للثورة على الظلم الذي مارسته السلطة الأموية الحاكمة بإسم الإسلام وهو منها براء .. بعد أن تخلت عن المنهج الإسلامي .. فحولت الخلافة الإسلامية الى ملك عضوض .
   وهجرته مقدمة لثورة تغييرية شاملة ترفع شعار أصالة الرسالة ورفض الظلم والفساد والإنحراف . . من المدينة الى مكة ثم الى العراق حيث الكوفة ثم إضطره جيش قوامه ألف فارس يقوده الحر بن يزيد الرياحي الى تغيير مساره بإتجاه رمضاء الطف .. كل ذلك في سبيل الله ورسوله وقد ورد ((من كانت هجرته لله والرسول فهي لله وارسول ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو إمرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه )) .
  فتلازم مفهوما الهجرة والثورة في ملحمة عاشوراء الخالدة وكلاهما يهدف التغيير وكلاهما يتأسس على إشكالية الظلم .
   وكان لتلك الهجرة الحسينية المباركة دورها الفاعل في تغيير حياة المسلمين .. كما كانت هجرة جده منعطف تحول في حياتهم وأصبحت تأريخم الذي يبتدئون به وينتهون إليه .. وذلك بإقتراح من أبي الحسنين علي بعد أن إختلف المسلمون في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقال أحدهم نجعلها من عام الفيل وقال ثان وقال ثالث فدخل علي ليحسم النزاع فقال نؤرخ من هجرة الرسول فإستحسنوها وقال عمر ((لاأبقاني الله لمعضلة ليس فيها أبو الحسن)) . ثم إمعانا من الأمويين في حرف التأريخ عمدوا الى تغيير رأس السنة الهجرية من السادس من ربيع الأول الى الأول من محرم لإظهار الفرح والسرور بعد قتل الإمام الحسين عليه السلام  .
   وما أحوجنا اليوم أخوتي المسلمين الى هجر الذنوب .. والهجرة نحو الله تعالى ورسوله .. والهجرة لنشر الدعوة الإسلامية في ربوع العالم .

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

مدرسة عاشوراء

 مدرسة عاشوراء                   


                      السيد محمد الياسري



عاشوراء مدرسة القيم النبيلة .. ومفاهيم الحياة الهادفة .. تعلم ويتعلم منها المسلمون وغير المسلمين درس الحرية على مر العصور وتعاقب الدهور .
   مدرسة .. رسخت في الذات المسلمة حفظ الكرامة الإنسانية ورفض التسلط الجائر . . وعاشوراء حركة دامية حفزت الكامن في النفوس وأثارته للوقوف بوجه الظلم والظالمين في أي زمان كانوا وفي أي مكان .. فكل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء .
  مدرسة .. لخصت وإختصرت فكر وسلوك أستاذها الأكبر الحسين بن علي بن أبي طالب "ع" وفكر وسلوك أهل بيته  وأنصاره .. وهي دروس لابد للمسلم وغير المسلم من تعلمها لمواجهة تحديات الحياة .
   وما أكثر تلك الدروس .. ولكن ما أقل وأندر من يتعلم الدرس الحسيني .. ليكتشف سر خلود هذه الملحمة ورموزها . . وما أقل وأندر من يتأمل في الواقعة ليتعرف على عبرها ويقف على معطياتها .. ويدرك المعاني الحقيقية لبعض الألفاظ المستهلكة في حاضر الناس .. فتضج الساحات بمقولات لم تفهم بعد كما أراد أبو عبد الله بل لا يراد لها أن تفهم .. التحرر ، الجهاد ، الصلاة ، الإيثار ، الصبر ، البصيرة ، الحياة الأبدية ، حب الله ، حب الشهادة ، الإباء ، الشهامة ، الشجاعة ، الوفاء ، النصر .. وعشرات بل مئات من مصفوفات القيم السامية الحية التي أفرزتها مدرسة عاشوراء .
   فمن عاشوراء نتعلم " كيف نثأر لله وحده لا لإنتساب أو إنتماء أو عصبية أوصيحة جاهلية أرضية.. ونتعلم كيف نضحي بالنفس والولد وبكل غال ونفيس ..وأن نؤمن بالسنة الحتمية القاضية بإنتصار الدم على السيف .. من أجل أن تبقى القيم الإسلامية وهي عينها القيم الإنسانية .. لا نظريات الإنسان القاصرة وحزبياته الضيقة وشعاراته المزيفة وضلالاته العمياء وأهواءه المتلونة ..
   ومن كربلاء نتعلم كيف نحمل القرآن شعارا ومنارا وهاديا ومبشرا ونذيرا .. قولا وعملا .. وهو الذي يهدينا للتي هي أقوم ويجنبنا الإنحرافات الأخلاقية والثقافية والسياسية والإجتماعية .
   ومن عاشوراء نتعلم أن المبدأ والرسالة قمة مقدسة تحرم المساومة عليها ويمنع التنازل عنها ولا يسترخى إزاءها ..   (( أشداء على الكفار رحماء بينهم )) .. في ذات الوقت الذي يتطلب القبول بالآخر كما هو لا كما نريد ونحاوره فيما عنده وما نريد دون مجاملة فكرية أو سياسية .
  ومن عاشوراء نتعلم كيف نقضي على أمراض فتكت بأمم من قبلنا كانت سببا من أسباب قتل الأنبياء والأولياء والتنكيل بهم .. وهي أمراض الإنهزام والتراجع والتخاذل والتواكل والضعف والخور .
   وإذا أردنا أن نكون تلامذة هذه المدرسة فعلينا أن نحرك الروح والكلمة والمال في خط الدعوة والخير .. وأن تنعكس شعارات كربلاء على طريقة تفكيرنا وتعاملاتنا وسلوكياتنا ..
 (( لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما )) و (( لا نبالي أن نموت محقين )) و (( والله إن قطعتموا يميني إني أحامي أبدا عن ديني وعن إمام صادق اليقين )) و (( الموت معك ياعم أحلى من العسل )) و (( الهي لك العتبى إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى )) و (( هيهات منا الذلة )) و (( إنما خرجت لطلب الإصلاح )) و (( على الإسلام السلام إذا إبتليت الأمة براع مثل يزيد )) و (( أنا أحق من غير )) و (( من كان فينا باذلا مهجته فليرحل معنا )) ..
    ومن أصحاب الحسين ع نتعلم الطاعة الخالصة للإمام والتنسيق التام مع قيادته والشجاعة الفريدة والمصابرة والتواصي والصمود وعدم المساومة .. والإنقطاع عن كل شي ماخلا الله تعالى .
   والدقة والتنظيم والإنضباط والمقاومة والوفاء بالعهد والأصالة والتحرر ولإستغناء عما سوى الله سبحانه واليقين والبصيرة والبناء الروحي .. فكانوا بحق خير أصحاب وأوفى أنصار .
    سيبقى عاشوراء درس جهاد وفداء لجميع المظلومين الثائرين والذين ينشدون الحرية .. وستبقى كربلاء درسا بليغا في الحرية .. فتلك أولوية كبرى من أولويات  نهضة الحسين وثورته وقد عبر عنها كثيرا (( موت في عز خير من حياة       في ذل )) وقال (( لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد )) وفي خطابه لجيش العدو قال (( ياشيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم )) .  ­


الأحد، 5 ديسمبر 2010

قريبا دروس من عاشوراء




كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء
بمناسبة ذكرى عاشوراء الفاجعة ستنشر على المدونة سلسلة دروس من عاشوراء

 للسيد محمد الياسري
وهي حلقات تلفزيونية ستنشر مكتوبة ..

السبت، 31 يوليو 2010

إضاءات في بعض جنبات نهضته

محمد حسين فضل الله
إضاءات في بعض جنبات نهضته


السيد محمد الياسري

محمد حسين فضل الله .. ظاهرة إسلامية ناهضة .. جديرة بالإحترام والإهتمام والتأمل .. وفي الوقوف عندها للقراءة المنتجة درس في الدعوة والعمل الإسلاميين المعاصرين .. وتجربته غنية لاغنى عنها في رسم ملامح مستقبل المسلمين .
وهذه الورقة لا تبحث عن ظروف الولادة والنشأة وماتبعهما بل تضيء بعض الجنبات في نهضة فضل الله في أوج مرجعيته وألمع نجوميته .. الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس .. بعلمه وعمله وبفعله الفكري والسياسي والإجتماعي والجهادي وبترفعه عن ردود الفعل الذاتية .
وبذلك مثل مفارقة بين العلماء الناهضين وسجل رقما صعبا في عوالم الإصلاح والتجديد والتغيير والنهضة والتنوير وغير ذلك من مفاهيم الإنبعاث الإسلامي والقيام الشيعي .
مثل مفارقة على مستوى الأداء المرجعي الديني العالي .. والإحتياط في تحمل مسؤولية الأمانة الثقيلة .. ومفارقة على مستوى التفكر العقلاني المتفتح دون تلفيق .. ومفارقة على مستوى القراءة التحليلية للأحداث الجارية في العالم .. فكانت بصيرته لاتخيب .. ومفارقة على مستوى العقل التنظيمي الذي يفوق عقل لينين كما وصفه هيكل .. ولولا ضوابط وقيود الإرث الديني لكان لفضل الله كلام أخر في توجيه العقل .


أولويات فضل الله
وضع محمد حسين فضل الله أولوية كبرى في منطلق نهضته هي تأصيل المفاهيم الإسلامية في المسألة الثقافية التي تنفتح على المفردات السياسية والحركية الروحية والعلمية والإقتصادية وما إلى ذلك .. لأن المشكلة التي تعانيها الصحوة الإسلامية في نظره هي أنها لم تستطع ان تقدم صورة كاملة مترابطة متصلة الخطوط للمشروع الإسلامي الواحد .
كما وضع الوحدة الإسلامية كأولوية أخرى .. ولم يقصد بها وحدة المذاهب والمناهج والأساليب لأنها تحتاج الى وقت أطول .. وإنما أراد بها وحدة القضايا المشتركة بين الإسلاميين الحركيين .. محذرا في ذات الوقت من إلتفاف الحالة المذهبية على الحالة الإسلامية الحركية .
ولم ينسى الأولويات الميدانية للقضايا الإسلامية الساخنة التي تترك تأثيراتها على الواقع الإسلامي سلبا أو إيجابا كالقضية الفلسطينية أم القضايا التي إلتقى عليها المسلمون جميعا والقضية العراقية واللبنانية وسائر قضايا العالم العربي والإسلامي والإنساني .
وفي الدفاع عن أولوياته تصدى فضل الله للتحديات الخارجية والداخلية التي يواجهها المسلمون في عصره معتبرا إياها أكثر خطورة من التحديات التي واجهها المسلمون في عهد الدعوة الأول لأنها تمثل تحديات بحجم العالم .. بحيث يقتحم الإستكبار على المسلمين بيوتهم وغرف نومهم بل مشاعرهم وأحاسيسهم مما يجعل الإنسان ينتصر في جانب ليهزم في جانب آخر .. لذا رأى أن من واجب الإسلاميين أن لا يتحركوا بإتجاه واحد كالسياسي أو العسكري ويغفلوا الجانب الثقافي والتبليغي في خط الدعوة وكذا العمل الإجتماعي .




فضل الله وأخلاقية التعامل مع مشاريع النهضة
صاغ المرجع المفكر فضل الله مشروعا إسلاميا نهضويا له ملامحه الخاصة دون إستنساخ ودون إنفصام قوامه الموروث الإسلامي ورؤى العصر التي لا تصطدم مع الشريعة الإسلامية.
ودخل الحاضر دون أن يسقط فيه أو يحذف ماضيه بل إستحضر الماضي بوعي عند دخوله للحاضر .. وتدرع بثقافة إسلامية أصيلة شاملة وموسوعية .. وقف خلالها يطاول قامات من رسموا مسارات النهوض العربي والإسلامي والبشري .
إلتقى مشروع السيد فضل الله مع مشاريع صاعدة أخرى تقاطع معها ولم يقطعها تكامل معها ولم يقابلها .. واصل بعضها لموضوعيته مع الحفاظ على خصوصيته .. وكان آخرها المشروع الفكري التغييري الذي إنطلق به الشهيد محمد باقر الصدر من العراق والمشروع الثوري التأسيسي الذي الذي أقامه السيد الخميني في إيران .
تكامل فضل الله مع الصدر والخميني في مشروعه .. قرأ تجربتيهما قراءة إستيعاب وإنتاج ليواصل مسيرة المشروع الحضاري الإسلامي واضعا لمساته وبصماته الخاصة .




المرجع المجدد
ولم يعد صعبا تصنيف السيد فضل كمرجع مجدد يعتبر التجديد ضرورة معرفية وشرطا من شروط النهوض .. لكنه حاكم مفردة التجديد قبل ولوج عالمها بإثارة سؤال هل المقصود بالتجديد هو التجديد في الدين أو في الفهم الديني ؟ أو هل هو تجديد الإسلام أو فهم الإسلام ؟ فالأول لا يصح بحال لأن الدين من عند الله والدين عند الله الإسلام وإن كان المقصود هو الثاني فهو المنهج الذي إعتمده في ما فكر وما خطب وما كتب .
من هنا طالب بتجديد لا يكون على حساب الدين وإنما لحسابه .. وطالب بعدم إسقاط القديم بهاجس الجديد .. فتكون عملية إستبدال لواقع وليس تجديدا فيه .. كأن يستبدل بفكر لا علاقة له بالدين أو بالإسلام فيعتبر خروجا عنه وعن مصادره الى دين أخر ومصادر أخرى .




تحديات في الواجهة
واجه فضل الله بمشروعه النهضوي وفكره التجديدي تحديات ومعوقات كادت أت تأتي على مشروعة لولا قدراته الإستثنائية في تجاوز الصعاب .. وهي تحديات واجهت من سبقه من الناهضين لكنها أزدادت معه حدة .. وأبرزها كما سجلها بعض الكتاب الإنحباس المدرسي وتماهي العلماء مع سلطة الدولة وإندكاك العلماء في إرادة العامة .
فقد حاولت بعض أطراف المدرسة التقليدية المنحبسة أن تحاصره وتملي على مدرسته التجديدية قي محاولة لشغله بذاته بدل مشروعه لكنه لم يعبأ ولم يكترث ولم ينجر الى معركة جانبية بل واصل مشروعه بقوة وإصرار .
كما واجه تحدي إستقلاله عن أي سلطة أو جهة في مقابل علماء وجهات متماهية مع سلطات وقوى داخلية وخارجية هنا وهناك .. لكنه بقي بذاته سلطة روحية وفكرية مستطيلة وقائمة وإذا إستطال الشيء قام بنفسه .
وتحدي خطير آخر وهو جبروت العامة الذي تكسرت أمامة الكثير من إرادات المفتين .. فلا يجرأ أحد على إصدار فتوى أو رأي يمكنه مخالفة ماتسطره العامة خوفا من سخطهم عليه أو مقاطعتهم له .. وقد تعاظم جبروت العامة وأضحى آفة أشد بلاءا من السيول والزلازل .
فللعامة مقدسات من صنع مخيلتهم لأ أصل لها في الدين ولا مستند وسكوت العلماء إزاءها زادها رسوخا .
وقد دفع السيد محسن الأمين ضريبة إجهاره بالحق في الأربعينات .. كما واجه السيد فضل الله حملة أوسع على هذا المنوال لأنه تمتع بجرأة الإصحار برأيه وموقفه الشرعي .
وبإنتصاره في مواجهة هذه التحديات وغيرها إستطاع أن يسجل حضور منهجه في تجديد الفهم الديني وإثبات فاعلية القيم الإسلامية التي تصنع الإنسان الصالح وتنتشله من التخلف والإنحطاط .. كما إستطاع أن ينتصر للإبداع من البدعة .
ستضاء الكثير من جنبات نهضة فضل الله بعد رحيله المحزن لتنير درب السائرين .

السبت، 12 يونيو 2010

فقه إسلامي

دور الفقه الإسلامي في نهضة المسلمين
الاجتهاد أنموذجا

بقلم : السيد محمد الياسري

  الفقه في اللغة هو العلم بالشيء والعلم له "1" .. قال تعالى (( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول )) "2" .. وهو فهم الشيء الدقيق .. قال تعالى (( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم )) "3" .. وإختار ذلك أبو إسحاق المروزي كما نقله عنه الزركشي في المنثور في القواعد وينقل الزركشي عن القرافي قوله (( وهذا أولى ولهذا خصصوا إسم الفقه بالعلوم النظرية ، فيشترط كونه في مظنة الخفاء ، فلا يحسن أن يقال : فقهت أن الإثنين أكثر من الواحد .. ومن ثم لم يسمى العالم بما هو من ضروريات الأحكام الشرعية فقيها )) .. وقيل هو أي الفقه فهم غرض المتكلم من كلامه ، سواء أكان الغرض واضحا أم خفيا وإختاره الرازي "4" . وقال إبن الأثير (( الفقه في الأصل الفهم وإشتقاقه من الشق والفتح )) . "5" .
  أما في الإصطلاح فقد عرفه الفقهاء العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية "6" .. أي ما يرادف لفظ الشرع .. فهو العلم المتكفل بالبحث عن الأحكام الشرعية المتعلق بها خروج الإنسان المكلف من عهدة التكليف والإمتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى والإنتهاء عن نواهيه .. والتوفر على ذلك فيه خير الدارين ورقي المجتمعات الإسلامية .
فمتعلق هذا العلم من الأحكام الفرعية هو ((أفعال المكلفين وتروكهم سواء كانت تكليفية كالوجوب والحرمة أو وضعية كالملكية والطهارة وسواء كانت متعلقة بالفرد في سلوكه الشخصي أو بالأسرة والعائلة أو بالمجتمع والدولة والسلوك العام .. أما أدلتها التفصيلة ففيه إخراج للفقه التقليدي أي علم المقلد بفتاوى مقلده فإنه ليس من الفقه الإصطلاحي فيختص علم الفقه بالإجتهادي كما يختص عنوان الفقيه بالمجتهد دون المقلد )) "7" .
  فالفقه هو عمل بشري يحاول فهم النصوص الشرعية من كتاب وسنة لوضع أحكام للوقائع الحادثة وتجلية النظام التشريعي الكامل في الإسلام .
  من هنا يكون الفقه الإسلامي مرتكزا أساسيا لأي حركة نهوض إسلامي .. ولا يمكن للمسلمين أن ينهضوا بواقعهم بعيدا عن الفقه ومتعلقاته .
  سيما الفقه الإسلامي الإمامي الذي يمتاز بعدة أمور منها :
1_ الإستناد الى الكتاب والسنة المروية عن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " بواسطة عترته الطاهرة وأتباعه الصادقين الضابطين بلا إنقطاع .
2_ سعة المنابع الحديثية بفضل عطاء أهل البيت "عليهم السلام" الذي دام 250 سنة بعد وفاة الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " لذلك فلا يوجد عجز حديثي كما في بعض المدارس الفقهية التي حاولت اللجوء الى إستعمال إستنباطات ظنية لأن النصوص لا تسعفها لتغطية إحتياجات الفروع الفقهية المستجدة .
3_ نقاوة المصدر تمثل ركيزة أساسية في هذا الفقه فلا يختلف إثنان من المسلمين فيما تتمتع به عترة النبي " صلى الله عليه وآله وسلم" من فضل وطهارة وصدق فهم قرين القران الكريم كما ورد .
4ـ إعطاء العقل أهمية خاصة إنطلاقا من الكتاب الكريم (( إن في خلق السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب )) و((ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )) و((أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها)) .
  وعن أبي جعفر " عليه السلام " قال (( إنما يداق الله العباد يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا )) .
وعن أبي عبد الله " عليه السلام" قال (( من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنة )) . وقد حدد الشرع الإسلامي صلاحيات هذا العقل ومساحة تحركه في فهم النصوص والأحكام .
وبالعقل دخل الفقه الى باب الملازمات العقلية .. كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، وحرمة الشيء وفساده ، وتوقف تنجز التكليف على البيان وقبح العقاب بلا بيان ، وإستلزام الإشتغال اليقيني البراءة القطعية .. الى غير ذلك مما يبحث عنه في الملازمات العقلية .
5_ كما أن للإجماع الكاشف عن وجود نص معصوم موقعه في الفقه الإسلامي الإمامي ولكنه ليس حجة بنفسه وإنما لكشفه عن وحود دليل شرعي لدى المجمعين .
6_ كما أن الفقه الإسلامي الإمامي لا يغفل العرف لتحديد المفاهيم وبيان الأوضاع كالرجوع الى قول اللغوي .

  وبعد هذه الإلمامة السريعة بالفقه تسنى لنا معرفة موقعه في نهضة المسلمين المعاصرة .. فالنهضة مشروع أمة وهو مشروع كبير يحتاج الى تمتين بناه التحتية وتشييده على أرض صلبة .. فلا نهضة بدون فقه إسلامي شامل يواكب العصر ويلاحق مستجداته .. ولا يتوهم أحدنا اليوم كما توهم بالأمس بإمكانية النهوض بالمسلمين بعيدا عن الفقه والفكر الإسلاميين فقد فشلت محاولا المحدثين من دعاة التغريب ومسخ الهوية لأنها تصطدم بالسماء وأنى لها القوة لذلك .
ولكي يواكب هذا الفقه العصر ويكون مرجل النهضة الإسلامية يجب أن لا نحتجزه عند عصر أو زمن محدد وأن لا نعطي للعقل المسلم جرعات تخدير وذلك بإيقاف باب الإجتهاد ..
 ومن واجبي أن أنقل للمذاهب الإسلامية تجربة ثرية حيث إمتازت المدرسة الفقهية الأمامية بترك باب الاجتهاد وإستنباط الأحكام الشرعية مفتوحا أمام فقهائها على مر العصور مما جعل الفقه موافقا لحاجة العصر ومتطلبات الحياة وإحتياجات البشر .
الأمر الذي ألفت الدكتور حامد حنفي فأشار إليه بقوله (( أما علماء الشيعة الإمامية فإنهم يبيحون لأنفسهم الإجتهاد .. ويصرون عليه كل الإصرار ولا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا ، وأكثر من ذلك نراهم يفترضون بل يشترطون وجود "المجتهد المعاصر" بين ظهرانيهم ويوجبون على الشيعة إتباعه وتقليده دون من مات من المجتهدين ما دام هذا المجتهد إستمد مقومات إجتهاده ـ أصولها وفروعها ـ من سلفه من المجتهدين وورثها عن الأئمة كابرا عن كابر ، وليس هذا غاية مايلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالإجتهاد، وإنما الجميل والجديد في هذه المسألة أن الإجتهاد على هذا النحو الذي نقرأه عنهم يساير سنن الحياة وتطورها ويجعل النصوص الشرعية حية متحركة نامية متطورة تتماشى مع نواميس الزمان والمكان فلا تجمد ذلك الجمود الممضد الذي يباعد بين الدين والدنيا أو بين العقيدة والتطور العلمي ، وهو الأمر الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم ، ولعل ما نلاحظه من كثرة عارمة من مؤلفات الإمامية وتضخم مطرد في مكتبة التشيع راجع الى فتح باب الإجتهاد على مصراعيه )) "8" .
  والإجتهاد مفردة هامة من مفردات الجهد البشري .. ودوره في بناء الحضارة الإنسانية تكاد تكون محورية في توجيه حركة الإنسان بإتجاه الصنع والإبداع لإرتباطها بالفكر الإسلامي من جهة وبالسلوك الإجتماعي من جهة أخرى ..
فهو كما يعرفه الفقهاء .. بذل الوسع لتحصيل الحكم الشرعي سوء في باب العبادات أو المعاملات أو العلاقات الإجتماعية والسياسية .. وحدوده التحري لضبط النص وفهمه . "9"
  وبالإعتماد على الإجتهاد كأداة معرفية وشرعية تستوعب حركة التأريخ وثقافات الشعوب يمكن تعبيد طريق جديدة للتنمية والنهوض والتقدم .. خصوصا إذا تم التخلص من العائق الإبستمولوجي المتمثل في فقه الفروع أو النزعة الفقهية التي تقابل الرؤية الكلية للقضايا الشرعية .
  وقد وضعت الشريعة الإسلامية الإجتهاد كمبدأ مستمر لفهم الكتاب والسنة الشريفة وإعتبرت المجتهد قطبا ومحورا ومرجعا للآخرين في شؤون دينهم .. وإعتبرت الإجتهاد واجبا كفائيا .. وحثت على طلب العلم ودراسة علوم الشريعة كما في آية النفر 122 من سورة التوبة .. وحثت على إلتزام قول العلماء .. قال تعالى (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) 43النمل .
وفي رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " عليه السلام " ((مجاري الأمور على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه))"10" .
  وقدد قرر الشهيد محمد باقر الصدر هذه الحقائق في مقدمة رسالته العملية " الفتاوى الواضحة " الرائعة من روائعه حيث يقول (( لو كانت أحكام الشريعة قد أعطيت كلها من خلال الكتاب والسنة ضمن صيغ وعبائر واضحة صريحة لا يشوبها أي شك أو غموض لكانت عملية إستخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنة ميسورة لكثير من الناس لكنها في الحقيقة لم تعط بهذه الصورة المحددة .. وإنما أعطيت منثورة في المجموع الكلي للكتاب والسنة .. وبصورة تفرض الحاجة الى منهج علمي في دراستها .. والمقارنة بينها وإستخراج النتائج النهائية منها .. ويزداد هذا الجهد العلمي ضرورة وتتنوع وتتعمق أكثر فأكثر متطلباته وحاجاته كلما إبتعد الشخص عن زمن صدور النص وإمتد الفاصل الزمني بينه وبين عصر الكتاب والسنة بكل ما يحمله هذا الفاصل من مضاعفات كضياع جملة من الأحاديث ولزوم تمحيص الأسانيد وتغير كثير من أساليب التعبير وقرائن التفهيم والملابسات التي تكتنف الكلام ودخول شيء كثير من الدس والإفتراء في مجاميع الروايات الأمر الذي يتطلب عناية بالغة في التمحيص والتدقيق .. هذا إضافة الى أن تطور الحياة يفرض عددا كبيرا من من الوقائع والحوادث الجديدة لم يرد فيها نص خاص .. فلابد من إستنباط حكما على ضوء القواعد العامة ومجموعة ما أعطي من أصول وتشريعات )) "11" .
  وفي الوقت الذي يقرر فيه المفكر الشهيد الصدر هذه الحقيقة في ضرورة الإجتهاد يشير الى تركيز الشريعة على خطورة وأهمية المجتهد العالم الفقيه العادل حيث (( رغبت الشريعة بشتى الأساليب في التقرب من العلماء والإستفادة منهم حتى جعلت النظر الى وجه العالم عبادة .. للترغيب في الرجوع إليهم والأخذ منهم وبقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شددت عليهم وتوقعت منهم سلوكا عامرا بالتقوى والإيمان والنزاهة .. نقيا من كل ألوان الإستغلال للعلم لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقا .. فقد جاء عن الإمام العسكري " عليه السلام " في هذا السياق قوله ( فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فاللعوام أن يقلدوه ) "12" .. وفي رواية عن الإمام الصادق " عليه السلام أنه قال ( من إستأكل بعلمه إفتقر ، فقيل له إن في شيعتك قوما يحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم ، ويتلقون منهم الصلة ، فقال ( ليس أولئل بمستأكلين إنما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ليبطل الحقوق طمعا في حطام الدنيا ) " 13" .. وفي حديث عن الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " ( الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا ) "14" .. وقد جاء في الحديث عنه "صلى الله عليه وآله وسلم " ( يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الضالين وإنتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد )) "15" .
  وقد أخذ الإجتهاد على يد الشهيد الصدر مداه الأوسع فالرجل سبق عصره وإنتقل بمدرسة النجف وبواقع الإجتهاد الفقهي الى مراحل كبيرة .
   فقد إتسم المنهج الفقهي عند المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر " قدس سره الشريف " بالإنفتاح والإستيعاب والمعالجة الأصيلة .
وهذا الأمر غريب على أجواء مدرسة النجف آنذاك التي كانت مغلقة على ذاتها في نطاق نشاط المكلفين الشخصي والإبتعاد عن قضايا المجتمع والحياة العامة والخوف من الجديد وسد الأبواب وبناء الأسوار العالية بوجه الفكر الوافد جيده ورديئه ..
الأمر الذي ترك مدرسة النجف في حينه بعيدة عن مواكبة تطورات العصر ومعالجة مستجدات الحياة بما يناسب .
ولذلك أسبابه الموضوعية ولعل من أبرزها التضييق السياسي الطائفي على الحوزات العلمية وعدم إفساح المجال أمامها للتفكير بالإبداع لأن التفكير بحد ذاته يعتبر جريمة في عرف بعض الحكومات الأمية الجاهلة الجائرة التي تعاقبت على حكم العراق .
ولعل المشكلة لم تقف عند حدود النجف الفقهية بل إتسعت لتشمل الإسلام .. كما يلفت الى ذلك السيد الشهيد بقوله (( شملت بعد أن سقط الحكم الإسلامي على أثر غزو المستعمر البلاد الإسلامية ، الإسلام ككل والفقه الإسلامي بشتى مذاهبه وأقيمت بدلا عن الإسلام قواعد فكرية أخرى لإنشاء الحياة الإجتماعية على أساسها وإستبدل الفقه الإسلامي بالفقه المرتبط حضاريا يتلك القواعد الفقهية )) " 1 " .
وقد أدى ذلك الى إنكماش الفقه من الناحية الموضوعية وقد إنعكس ذلك على ذهن الفقيه وعقله فتوجه بإتجاه المسلم الفرد وحاجته بدلا عن الجماعة الإسلامية .
  والأخطر أنه (( أدى الى تسرب الفردية الى نظرة الفقيه الى الشريعة نفسها .. وأصبح ينظر الى الشريعة ذاتها كأنها تعمل في حدود الهدف المنكمش )) " 2 " .
  ولإدراكه خطورة هذه النظرة طالب الشهيد الصدر في أكثر من موضع بتحرير الفقه من هذه القيود الوهمية المصطنعة التي تحجم دوره وتحتجزه في أطر ضيقة .. وإخراجه الى فضاء الإتجاه الموضوعي وفقه النظريات حيث يستوعب مستجدات وتطورات تطرأ بشكل مطرد على حياة المسلم .
  فقد حاكم الإتجاهات السائدة وأبرزها .. إتجاهان أحدهما يأسر الفقه في عالم النصوصوية والبحث النظري دون الإلتفات ... وآخر يرى أن التعمق النظري ليس إلا ترفا فكريا وتسلية عقلية وعليه يتم الإستغراق في أبعاد الواقع دون نظرية ..
وكلا الإتجاهين على خطأ فالفقه في فهم الصدر هو (( المرآة التي تعكس الإسلام )) " 3 " .
(( ففي الفقه تقرر أحكام الإسلام ، في الفقه تحدد مفاهيم الإسلام ، في الفقه تتبسط في إستيعابه وشموله ومواقفه تجاه مختلف المشاكل والقضايا التي تمتد إليها حياة الإنسان ، فالفقه بوصفه عملا علميا هو المرآة هو الواجهة هو المعرف هو المظهر الخارجي الحسي الذي يعيش حتى اليوم تنعكس فيه الشريعة بأحكامها ومفاهيمها وقوانينها فالفقه هو همزة الوصل وعلى دقة التعريف وشموله في هذا العرف وعلى المرآة يتوقف مدى إنعكاس الإسلام وبالتالي مدى وضوحه كرسالة منقذة قادرة على إستيعاب كل مناحي الحياة )) " 4 " .
  وأعرب السيد الشهيد عن ضرورة التحرر من عقدة الفقه الفردي أفقه الأحكام وضرورة الإنطلاق في عالم النظريات .. حيث قال (( ...تكون الحاجة الى دراسة نظريات القرآن والإسلام حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي .. بكل ما يملك من رصيد كبير وثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية حيث وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة فكان لابد له لكي يحدد موقف الإسلام من هذه النظريات أن يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل الى مواقف الإسلام الحقيقية سلبا وإيجابا لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع )) " 5 " .
  وبالرغم من إنفتاح الشهيد الصدر على النظريات والأطاريح الجديدة المختلفة فقد عالجها بأصالة كبيرة .
فهو مجتهد وفقيه مقتدر جامع للشرائط ينتمي الى مرسة أهل البيت "ع" التي إتسمت بالأصالة والصرامة المبدأية بل ينتمي الى المدرسة الأصولية تحديدا .. وقد حاز على أعلى درجات الفقاهة بالطرق التقليدية فأبحاثه الفقهية العالية والتي نزلت في كتابه " بحوث في شرح العروة الوثقى " واضحة بهذا الإطار .
  إذن فهو يتمتع بحصانة إجتهادية من الطراز الرفيع تؤهله ليعالج مختلف القضايا المعاصرة وقد تدر عبها في إنفتاحه على العصر وإنجازه " فقه النظريات " .
  وفقه النظريات هو (( عملية إستنباط وإكتشاف الإطار العام للموقف الفقهي تجاه مجال من مجالات الحياة )) " 6 " .
أو هو (( فهم النصوص الشرعية فهما يراد منه إكتشاف وإستخلاص النظريات الإسلامية ، أو أنه الإجتهاد القائم على الكتاب والسنة والعقل لإكتشاف النظريات الإسلامية )) " 7" .
  وموضوعه مجمل النظريات الإسلامية ويعنى بالبحث عن آلياتها وقواعدها العامة وإشكالياتها وفق المنهجية الموضوعية التي إبتكرها الشهيد الصدر وحدد أدواتها وضوابطها وكشف عن أصولها وقواعدها .
  فالصدر أول من تداول مصطلح " فقه النظريات " بصورة متكاملة فهو يقول (( أما حيث يريد الفقيه أن يتخطى فقه الأحكام الى "فقه النظريات" ويمارس عملية إكتشاف المذهب الإقتصادي في الإسلام فإن طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها وتحتم عليه أن تكون نقطة الإنطلاق مجموعة متسقة ومنسجمة من الأحكام فإن إستطاع أن تجد هذه المجموعة فيما يضمه إجتهاده الشخصي من أحكام وينطلق منها في عملية الإكتشاف لفهم الأسس العامة للإقتصاد الإسلامي دون أن يمنى بتناقض أو تنافر بين عصار تلك المجموعة .. فهي فرصة ثمينة تتحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيها يستنبط الأحكام مع شخصيته بصفته مكتشفا للنظريات وأما إذا لم يسعد بهذه الفرصة ولم يسعفه إجتهاده بنقطة الإنطلاق المناسبة فإن هذا لن يؤثر على تصميمه في العملية ولا على إيمانه بأن واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسر تفسيرا نظريا متسقا شاملا )) " 8" .
وقد أنجز الصدر وفقا للمنهج الموضوعي وفقه النظريات كتبه القيمة " إقتصادنا " و " البنك اللاربوي في الإسلام " و " المدرسة القرآنية " و " الإسلام يقود الحياة " .
  فإكتشف خلالها نظريات الإسلام في " الإقتصاد " وفي "المعاملات المصرفية " و "سنن التاريخ " و " عناصر المجتمع " و "نظرية الإسلام في السياسة ونظام الحكم " وغيرها من النظريات التي نقل بها الإجتهاد نقلات نوعية .

الثلاثاء، 8 يونيو 2010

الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)



الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
مشروع الماضي والحاضر والمستقبل


السيد محمد الياسري



  الكتابة بهذه السرعة وهذا الإقتضاب عن شخصية مدهشة كالإمام جعفر الصادق (ع) مجازفة علمية كبيرة فضلا عن كوني إنسان من طبعي القصور والتقصير لكنني حاولت تحري الدقة في التأمل حول بعض الآفاق الصادقية الرحبة .
وقصة الصادق (ع) قصة مثيرة وحياته مفعمة بالنشاط .. وهي تعلمنا كمعلم صامت أسباب رقي الحضارات وسقوطها .. ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)) يوسف 111.
  وتأريخه كجزء من الماضي صحيفة كبيرة مفتوحة أمام صحيفة المستقبل المطوية وبوعي ذلك القسم المفتوح وإدراك ملابساته ومعطياته يتم التعاطي مع الحاضر وإستشراف المستقبل وتحديد معالم مسيرته .
لكن أغلب الذين تعاملوا مع التأريخ بما فيه تأريخه (ع) غلبت على كتاباتهم مشاهد العرض السردي أو الطابع القصصي وهناك كتابات موسوعية إعتنت بحفظ تراثه وأخرى وصفية دفاعية تنتقي النصوص لتبرز صفات الإمام (ع) وكتابات إنتهجت العرض العبقري أو طرح النموذج البطل الذي لايقارن به أحد .. وهناك جهود تحقيقية وتحليلية ولكنها تجزيئية وليست موضوعية تتعامل مع النص في إطاره المحدود . وإتصفت أغلب الكتابات بغياب الإبداع إلا في محاولات ضلت يتيمة .
لذلك نحن بحاجة الى قراءة التجربة الصادقية قراءة "المشروع الماضي والحاضر والمستقبل" غير العاجز عن العطاء المستمر والنماء المتواصل .
  وإستنطاق تلك التجربة ومحاكاة رائدها الصادق ضرورة ملحة للخروج من أزمة الحضارة التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي المعاصر . وعند التأمل تجد أن مشروعه من أكثر المشاريع قدرة على الاستمرار والريادة لأنه مضافا الى بعده الروحي يتمتع بمرونة تسمح بإستيعاب الصيرورة التاريخية .. وتعطي زخما كبيرا للإجتهاد الذي يثري نفسه بمعطيات التجربة التاريخية .. فالمشروع الصادقي في تحقق مستمر .. وجعفر بن محمد المشروع مثل أعلى مرتبط بالمطلق فاستحضاره ليس حركة تماثلية تكرارية كما هي حركات التأسي والاستحضار للمثل المنخفضة " التي تأخذ بيدها ماضيها الى الحاضر وحاضرها الى المستقبل ليس لها مستقبل في الحقيقة وإنما مستقبلها هو ماضيها " 1 .
  فالدخول الى الحاضر "الحداثة" دون الإنطلاق من الماضي ومن النص الإلهي يلغي شخصية الأمة ، وفلسفتنا للحاضر والماضي أو للحداثة والتراث أن لا تقابل بينهما بل نرى بينهما تفاعلا مستمرا في إطار متطلبات الإسلام وصلاحيته .
وإذا أردنا الآن أن نستحضر نموذجا من مشروع وتجربة وتأريخ الإمام (ع) .. فهي كثيرة منها مشروع الحوار والجدل والمحاججة مع الزنادقة الذين كثروا في زمانه .. وهم إمتداد لتيار إلحادي عميق الجذور .. وعنوان الزنديق يطلق على الدهري والمشرك والملحد والثنوي والأخير كما في القاموس المحيط .. هو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو يبطن الكفر ويظهر الإيمان ـ أو جميع ذلك ـ .
  ومنها تجربته مع علماء السلطة الذين دأبت السلطات الحاكمة على الإستعانة بهم لإيجاد غطاء شرعي يبرر سلوك وتصرفات الحكام المستبدين ولإيجاد واجهات علمية مصطنعة لا تمثل جوهر الدين وحقيقة الإسلام .. وذلك من أجل مواجهة مواجهة الحق المتمثل بحجة الله في الأرض .
  ومن تلك الواجهات كان أبو حنيفة النعمان وإبن أبي ليلى مفتي الكوفة وقاضيها من قبل السلطة .. وغيرهما .
وقد أفشل الصادق (ع) في مباحثاته الفقهية وردوده العلمية مخططات السلطة العباسية وكذلك تجربته مع المعتزلة ومنهم عمرو بن عبيد كبير المعتزلة وواصل بن عطاء .. وغيرهما .
  ومشاريعه العلمية الكبيرة في مجالات الطب وعلم النجوم والبيئة وعالم الطبيعة وعلم الكيمياء وغيرها ..
ولاننسى تجربته مع جبابرة عصره كالمنصور العباسي فمشروعه برمته إعتبره المنصور تهديدا لجبروته فضلا عن إستغلال الإمام الفرص لقول كلمة الحق بوجه ذلك السلطان الجائر وهي أعظم الجهاد كما ورد ..
لذلك كان المنصور الدوانيقي وعصابته الإنقلابية يتحينون الفرص للقضاء على الإمام حتى قتلوه بالسم .
ولديه تجارب أخرى مع الصوفية والمتزهدة الذين حاولوا إغراء الناس بمظاهر التقشف والتزهد كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبّاد بن كثير وغيرهم .
  وإذا أردنا أن نتعدى هذه المشاريع والتجارب ومحطات التأريخ المضيئة لنأخذ واحدا من مشاريعه لنقف مليا ونتأمل في بعض أبعادة ولا أقول ندرسه دراسة حفرية لأن ذلك يحتاج الى وقت أطول ..
  يجذبني كثيرا مشروع "ماضي وحاضر ومستقبل" ويحفزني على تسميته "جيش الأربعة آلاف طالب" .. ففي معمعة الإنحراف الديني والخلقي أنشأ جيشه المظفر حارسا أمينا للكيان الإسلامي .. وتميز جيشه بالإحتراف في شؤون الفقه والآداب والإصلاح الإجتماعي والفلسفة والعلوم مع طابعه الأخلاقي والقيمي ، ليتجند في خدمة الإنسان .
يقول سليمان الكتاني وهو كاتب مسيحي " يكفينا فخرا أن نتباهى بعصر سبقنا بألف وأربعمائة سنة حققت مدينة يثرب ـ والكوفة ـ مالم نتوصل نحن اليوم الى تحقيقه ، ولو أن المنصور الدوانيقي إستجاب لذكرى الإمام وطاوعته بالإستجابة أجيال الأمة المستمرة بنا حتى الآن ، لكان لنا وجود حاضر لأمة تنبذ أمريكا ـ وإسرائيل والتكفيريين ـ فعلا وقيمة ، فيا للحسرة الجسيمة نقولها الآن ونحن صاغرون " .
  "مدرسة إستطاعت أن توفق بين التعارضات التي تجاذبت علم الكلام في الغرب المسيحي كما في الشرق الإسلامي ، فإذا كان ديكارت في الغرب قد حطم الثقافة لمصلحة العقل والغزالي في الشرق أطاح بالثقافة لمصلحة الإيمان " فإن أهمية المدرسة الجعفرية أنها جمعت في علم الكلام بين الثقافة والإيمان وبين الإيمان والعقل ..
وهي ثورة فكرية حضارية شاملة إنطلقت في منتصف القرن الثاني الهجري حين أوصاه أبوه الإمام الباقر (ع) بصحابته فأجاب قائلا "جعلت فداك والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في مصر فلا يسأل أحدا" وقد حقق ذلك في جامعته الكبرى أو "جيش الأربعة آلاف طالب " .
  وكان كل واحد من هؤلاء الطلاب شخصية علمية متألقة وكانت لهم مساهمات جادة وكبيرة في مختلف الإختصاصات والعلوم ..
وقد قال الحسن بن علي بن زياد الوشاء وهو من تلامذة الإمام الرضا (ع) ومن المحدثين الكبار "أدركت في هذا المسجد ـ الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد " كما في فهرست مصنفي الشيعة .
وكان في طليعة هذه الجامعة ـ الجيش ـ في المجال الفقهي النجباء الأربعة زرارة بن أعين وبريد بن معاوية وأبو بصير ومحمد بن مسلم ويلحق بهم أبان بن تغلب ..
  وفي المجال الكلامي هشام بن الحكم ومؤمن الطاق محمد بن علي بن النعمان الأحول .. وفي مجال الكيمياء جابر بن حيان الصوفي الطرسوسي وفي مجال العرفان والسر والحكمة جابر بن يزيد الجعفي وأبي حمزة الثمالي .. وغيرهم.
واليوم ومن منصة هذا المؤتمر أوجه خطابي لعلماء النجف الأشرف والحواضر العلمية الأخرى في العالم الإسلامي بكل تقدير وإحترام .. أقول يا سادتي ومشايخي الكرام أنتم تعتبرون أنفسكم وحوزتكم ومنهجكم إمتداد لمدرسة الإمام الصادق عليه السلام والكثير من المؤرخين قالوا أن جذور مدرسة النجف العتيدة تضرب في العمق أبعد من الفترة التي إنتقل فيها الشيخ الطوسي من بغداد الى النجف فهي إمتداد لمدرسة الكوفة الجعفرية .. فإذا أردت أن أنقد للبناء لا للهدم فإن الإمام الصادق عليه السلام عندما قدم الى الكوفة في العقد الرابع من القرن الثاني الهجري وبقى فيها لمدة عامين وأسس جامعته كان من أبرز سماتها التكامل الفكري والتجديد في المناهج والأساليب وهذا مفقود في حوزتنا اليوم ..
  وإذا كان الإمام قد أدخل الإختصاص منذ ذلك العهد فنحن اليوم أبعد بكثير عن الإختصاص . فلا نعتبر مرحلة تطورية على تلك المرحلة مع أنه قانون طبيعي تفرضه حركة تراكم التجربة .
  وإذا كان مسجد الكوفة الذي إحتضن علوم أهل البيت وأصل المنهج القرآني الإلهي في نفوس الالاف من الطلبة فلا نجد للقرآن منهجا رئيسيا في الحوزة العلمية اليوم فضلا عن العلوم الإنسانية والطبيعية الأخر ..
أما الحديث عن الكوفة ومسجدها اليوم فهو حديث ذو شجون .. فتطوير المؤسسة الحوزوية ضرورة ملحة .. على مستويات النظام والإدارة والمناهج والدور الإجتماعي .. والعالم اليوم يشهد تطورا هائلا وهو لا ينتظرنا حتى نلحق به .. وعقول الناس تتسع بصورة إنفجارية والناس بدئوا يطالبون بالدليل بعد أن كانوا يطالبون بالحكم فحسب .. لأن خطابنا يتعلق في نمط حياتهم وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة ..
  ولابد من الإعتراف الى أننا بحاجة الى بذل جهود إستثنائية لنتقل الى مرحلة الفعل فضلا عن ردود الفعل السريعة لأن ردود الفعل التي نقوم بها متأخرة جدا عما يفرزه العالم الحديث في مختلف الحقول والمجالات .. في حوزتنا نقاط قوة وفيها نقاط ضعف ينبغي تحديدها بصورة دقيقة لنعمل على تحويل الضعف الى قوة.













• مشاركة في مؤتمر الإمام الصادق ع في النجف الأشرف .

الاثنين، 7 يونيو 2010

المصالحة الوطنية في العراق .. مقاربات دينية

المصالحة الوطنية في العراق مقاربات دينية


السيد محمد الياسري


  الإصلاح ضد الإفساد والاستصلاح ضد الإستفساد والعرب تؤنثها ، يذكر ويؤنث ، الصلاح ضد الفساد ورفع التنازع و(الصلاح) بالكسر مصدر (المصالحة) والاسم (الصلح)،ويعني السلم والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس يقال منها إصطلحوا وتصالحو..
  قال تعالى ((ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وأدعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين))(56) الأعراف.
  وقال أيضا((...فلا جناح عليهما أن يصلحها بينهما صلحا والصلح خير.....)) (36) البقرة.
  وأيضا ((وإن تصلحوا وتتقوا فأن الله كان غفورا رحيما)) (29)البقرة.
  وأيضا ((إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم وأتقوا الله لعلكم ترحمون))الحجرات..
  وقال ((وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لايحب الظالمين))
  وقال سبحانه ((ولاتجعلوا الله عرضة لإيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم)) (224)البقرة .
  وقال ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما))(114)النساء،
  وأيضا ((فأتقوا الله وإصلحوا ذات بينكم ..))الأنفال ،وكذلك ((ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها...))(85)النساء



  فعلى ضوء هذه الآيات الكريمة نفهم أن روح القرآن الكريم تصور السلم هو الأصل في الإسلام والحرب حالة طارئة إضطرارية .. وتصور أن الصلح هو الأصل وهو خير بينما التقاطع والتنازع والتنافر شر طارئ يجب زواله ، وتؤكد على روحية التسامح .. فيتنازل الإنسان عن حقه من موقع القدره على أخذه .. ويتوقف عن الإنتقام لنفسه ..
  فروح القرآن في مواضع عديدة يؤكد على التسامح ونفي الإكراه والكراهية في الدين ، وإشاعة العفو والسلام ، والعدل والإحسان والتراحم ، والحوار ،والحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن والمحبة والصبر والمداراة والصفح الجميل والهجر الجميل وغير ذلك من معاني اللين والسماح ، وإحترام الآخر، والمصالحة والعيش المشترك.....والأمن السياسي والإجتماعي والثقافي والأخوة الوطنية في العراق والسلم المجتمعي .







المصالحة والصلح في السنة الشريفة



  حفلت السنة الشريفة بمئات النصوص التي تؤكد على أهمية المصالحة والصلح في إشاعة قيم الإسلام.



*قال أبو عبد الله عليه السلام: ملعون ملعون رجل يبدؤه أخوه في الصلح فلم يصالحه . البحار ج74 ،ص236 باب حقوق الإخوان .

*((عن الصادق عن أبائه قال : قال رسول الله (ص) : ما عمل امرء عملا بعد إقامة الفرائض خيرا من إصلاح بين الناس ، يقول خيرا وينمي خيرا)). البحار76، ص43 باب الإصلاح بين الناس . ج1



* بهذا الإسناد قال : قال النبي (ص) ((إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم . البحارج76، ص43 ج2 .



* عن حبيب الأموي قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا . الكافي ج2 ، ص 166 ج1 .



* عن أبي عبد الله (ع) قال : لأن أصلح بين إثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين . الكافي ج2 ،ص167 ج2 .



* عن مفضل قال : قال أبو عبد الله (ع) إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي . الكافي ج2 ،ص167 ج3 .



* في وصية أمير المؤمنين ع للحسنين ع أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإني سمعت جدكما "ص" يقول إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام .. نهج البلاغة ص977في ر47.



* وقال الصادق ع : أكرم الخلق على الله بعد الأنبياء العلماء الناصحون والمتعلمون الخاشعون والمصلح بين الناس في الله . جامع الأخبار ص 185.



* وقال "ع" من أصلح بين الناس أصلح الله بينه وبين العباد في الآخرة والإصلاح بين الناس من الإحسان ، ورأس المال العلم والصبر وذكر الجنة عبادة ولا يكون العبد في الأرض مصلحا حتى يسمى في السماء مصلحا.





* قال النبي "ص" رحم الله عبدا تكلم فغنم ، أو سكت فسلم ، إن اللسان أملك شيء للإنسان , ألا وإن كلام العبد كله عليه إلا ذكر الله أو نهيا عن منكر أو إصلاحا بين الناس وقال الله تعالى ولا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس .جامع الأخبار 185.



   ومفهوم المصالحة في العراق أوسع من ذلك فهو إزالة للنفار .ورفع للتنازع الذي نهى عنه القرآن الكريم ((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وإصبروا إن الله مع الصابرين )) الأنفال 46.
  وهو نبذ للتفرقة (( ولا تكونوا كالذين تفرقوا وأختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )) آل عمران 105.  وهو إعتصام بحبل الله ((واعتصموا بحبل الله جميعا وأذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين لكم الله آياته لعلكم تهتدون )) آل عمران13.
وهو ترسيخ لمبدأ الأخوة ((إنما المؤمنون إخوة ))الحجرات 10 .وهو إشاعة الرحمة بين الناس ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )).



  وهو نفي للإكراه ((لا إكراه في الدين ،فقد تبين الرشد من الغي ))القرة256. وهو دفع بالتي هي أحسن (( إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ول حميم )) وهو ولاء (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) التوبة 71. وهو طريق الوحدة (( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون )) الأنبياء92.



  فمفهوم المصالحة إعتراف بالواقع الإنساني مع ضمان العدالة في قبال التسليم للواقع القائم وفي قبال الطوبائية والمثالية التي تناقض الواقع ..



  فهو اذا توازن ومرونة وشمول ووسطية ..ينطوي على التعاون والتوافق والتقدير والحب والسلام . عند الإختلاف ونبذ التكفير والتفسيق والإتهام بالإبتداع وعدم المؤاخذة بلوازم الرأي والتعامل بإحترام عند الحوار وتجنب الإساءة لمقدسات الآخرين والحرية في اختيار الدين والمذهب .. وقبول بالتعددية السياسية،من هنا ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية كتابا وسنة ..
قال رسول الله (ص) ((ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم يد على من سواهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل )) صحيح البخاري ج3 ص26 إحياء التراث.



  وقال (ص) (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا و لا تجسسوا ولا تناجشوا وتحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام .التاج الجامع ج5 ص29.



  وقال (ص) (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مؤمنا ستره الله يوم القيامة) المصدر.



وعن عبد المؤمن الأنصاري .قال : دخلت على الإمام أبي الحسن (الكاظم) وعنده محمد بن عبد الله الجعفري وإليه فقال (ع) : أتحبه ؟ قلت : نعم وما أجبته إلا لكم . فقال (ع) : هو أخوك ، والمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه . ملعون ملعون من أتهم أخاه ،ملعون ملعون من غش أخاه ، ملعون ملعون من لم ينصح أخاه ، ملعون ملعون من إستأثر على أخيه ،ملعون ملعون من إغتاب أخاه ،البحار ج71 ص 236.



  من هنا نفهم أن المصالحة ليست خيارا بل ضرورة لنتيجة استحقاقات الواقع العراقي الذي حاول البعض أن يبث فيه روح الفرقة والتنازع والتناحر والهدم وسادت فيه لغة ردود الفعل والتدليس والتشكيك الذي نجم عنه سلب استقرار المجتمع ،ارتكبت فيه المحرمات والكبائر تحت يافطة المنافسه السياسية ومنها التكفير والغيبة والنميمة والبهتان والكذب وشهادة الزور والثناء الزائف على المؤيدين من الخصوم والافتراء والتجسس الحرام ويتضح ذلك من خلال ممارسة الإعلام في تزييف الواقع والوقائع ، وتفشت ثقافات سوء كالتعصب والإنقياد الأعمى والطائفية والعنصرية والقومية وتقديس الرمز أو الحزب ، وكل ذلك من إسقاطات الواقع الظلامي ..
  الذي يحتم علينا أن ننزع جميعا الى مصالحة مع الذات ومصالحة مع القيم ومصالحة مع الوطن ومصالحة فيما بيننا ، وهذا النوع من المصالحة يكون مدعاة للوفاق الوطني ، وتوفير أسباب التقارب بين مصلحة النظام ومصلحة الشعب ، ومدعاة للإقلاع عما يزعزع العلاقات الإجتماعية بين المواطنين .



إستحضار التاريخ



  ولتأسيس رؤية سياسية وحضارية على خلفية تعتمد الرؤية العلمية للتأريخ .. حول مشروع المصالحة الوطنية في العراق .. للإستضاءة والكشف عن عوامل الفشل والنجاح والتقدم والتأخر والنهضة والإنحطاط ، ضمن مقاربة هدفها تمييز عناصر القوة من عناصر الضعف في تاريخنا الإسلامي ..



  فإن عملية إستحضار التاريخ الإسلامي في هذا المجال تعني إستحضار تجارب رسول الله (ص) . في منطلق دعوته الإلهية المباركة ..
  ومن تلك التجارب ((المؤاخاة)) التي إستطاع رسول الله من خلالها التغلب على التناقضات الداخلية القائمة بين الأوس والخزرج والتناقضات المتوقعة بين المهاجرين والأنصار .. وهي المؤاخاة الثانية بعد مؤاخاة (مكة ،بين أصحابه من قريش ومواليهم العبيد المعتقين ) ، ومن الواضح أن الهدف من هذه المؤاخاة هو تحطيم الإعتبار الطبقي ، القبلي ،الإقتصادي ، والتعبير العملي عن مبدأ المؤاساة ، والمساواة الإسلامي الى جانب تعميق العلاقة الإيمانية بين المسلمين .
أما المؤاخاة الثانية فكانت في المدينة فقد كانت بين المهاجرين_أحرارا_ وموالي _والأنصار للأسباب والدواعي التي ذكرناها في مقدمة هذه الفقرة ، وكان الطابع الإجتماعي ،الإقتصادي ،السياسي لهذه المؤاخاة بارزا الى جانب البعد الإيماني الإنساني الذي هو دائما في أساس كل عمل تنظيمي في الإسلام ، فقد كانت هذه المؤاخاة تقتضي المشاركة في الأموال والمواريث الى أن رفع الله حكم التوريث بها ... وبهذا العمل أرسى النبي أهم الأسس في بناء الأمة الإسلامية ورسخ مفهومها في عقول وقلوب المسلمين . نظام الحكم والإدارة في الإسلام / شمس الدين ص526 ط7 ،



  وصلح الحديبية ،حيث صالح الرسول (ص) قريشا كما صالح خيبر ووادع الضميري في ....... الألواء وصالح أكيدر دوحة وأهل نجران .. ومدار الصلح هو مصلحة المسلمين (سواء أكان ذلك في صلح الحديبية أم في طريقة الإمام علي في مواجهة الموقف بصفين . أم في صلح الإمام الحسن عليه السلام ) . تفسير من وحي القرآن . فضل الله المجلد الرابع ص 90 ط الثانية .



  وفي هذا الصدد نجد الإمام علي (ع) يكتب لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي ((ولا تدفعا صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا ، فأن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك ، وأمنا لبلادك ، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم وإتهم في ذلك حسن الظن )) نهج البلاغة ج2 ص 140 .



المصالحة والصلح في الفقه الإسلامي ..



  أفرد الفقهاء في إيمانهم ورسائلهم بابا كاملا تحت عنوان (الصلح) من حيث كونها معاملة توجد بالقصد بين المتعاملين ، وإن هذه المعاملة لازمة وغير قابلة للفسخ .. بإعتبار إبرامه لفض المنازعات فإذا فسخ عادت المنازعات ولقيام الإجماع على ذلك ، كما عن السرائر والتذكرة نقلا عن رياض المسائل ، وقد عرفه الفقهاء ((عقد شرعي للتراضي والتسالم بين شخصين في أمر من تمليك عين أو منفعة أو إسقاط دين أو حق أو غير ذلك مجانا أو بعوض )) منهاج الصالحين /الخوئي ط 28 ص192 .
وهو الإتفاق بين طرفين على تمليك عين أو منفعة أو على إسقاط دين أو حق بعوض أو مجانا ومع النزاع وبدونه . فقه الشريعة /فضل الله ج2 ص513 ط4 .
  وقالوا (ويجوز إيقاعه على كل إمرء في كل مقام إلا إذا كان محرما لحلال أو محللا لحرام) . منهاج الصالحين . السيستاني ج2 ص373 ط5 .
  وأفرد بعضهم عنوانا أسماه (الصلح العام ، حيث جاء ، ورد الصلح أيضا في الشريعة كمقاولة نافذة المفعول بين طرفين ن في الجهاد المقدس بين جيش المسلمين وجيش الكفار ، فكلما إتفق عليه الطرفان من فقرات الصلح كانت نافذة وحجة شرعا ، ولا يجوز مجاوزتها وعصيانها .
  وقد ورد عن النبي (ص) في مصادر الفريقين عن سبطه الإمام الحسن (ع)، أنه يصلح بين طائفتين من المسلمين . يعني معسكره والمعسكر الأموي ومن هنا كان الصلح الذي أمامه بينه وبين الأمويين نافذا وحجة شرعا من الناحية الفقهية ولا يجوز مخالفته وعصيانه ..
  وقد سمعنا في كتاب المشتركات . أن هناك من الأراضي ما يسمى ((أراضي الصلح)) وهي ما صالح عليه جيش المسلمين جيش الكفار على أساس أن تكون الأراضي التي تدعون ملكيته سلفا ، ملكا لهم بإستمرار ، ومن هنا يقال شرعيا وفقهيا أن هذه الأراضي تكون لأصحابها وإن كانوا كفارا .. ما وراء الفقه الصدر الثاني ج5 ص16 ط1 .



  من هنا حصل لدينا شكلان من أشكال الصلح أو أكثر غير ما سبق في الصلح الخاص لو صح القول ..



الشكل الأول :الصلح بين جماعتين أو قل بين أي جماعتين أو مجتمعين أو أميرين سواء كان هناك حرب بينهما أو لا .



الشكل الثاني :الصلح على أمور غير مالية بل على أمور معنوية تتمثل في سلوك معين يفرض على أحد الطرفين أو كلاهما من خلاله . المصدر السابق
وكل ذلك حجة بإعتبار ماورد في الصحيح (الصلح جائز بين المسلمين ). الوسائل 18_443 أبواب أحكام الصلح .



  وكذلك الإستدلال بصلح الحسن (ع) وهو قطعي الصدور ب3 ج1 وفيه إجماع بين الناس تاريخيا وهو ما يتوفر في كلا الشكلين السابقين .. ومن حيث النظر الى الصلح مع الباغي ((فإن فائت فإصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا )) الحجرات 9.



دور علماء الدين في المصالحة الوطنية في العراق



  يشغل علماء الدين موقعا مهما في خارطة المصالحة الوطنية في العراق .. ويشكلون صماما كبيرا من صمامات الأمن والسلم الأهلي .. وهم الإتجاه المؤهل والقادر على شق طريق المصالحة والوحدة أمام العراقيين أكثر من غيرهم ، فهم رهان الشعب الدائم للخروج من الأزمات المستعصية ، وما زال رصيدهم الأكبر في نفوس الناس من حيث الثقة بهم والتعاطي مع دعواتهم بجد ولما يتضمنه الدين من تأكيد على مبادئ الوحدة والسلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. الأمر الذي يمكنهم من التغلب على حالات اليأس والتشكيك والألتباس الذي تكتنف عقول وقلوب الناس ..





  ودورهم في مجال السلم في العراق كبير جدا لإن هذا الشعب من أكثر الشعوب إحتراما للعلم والعلماء وتقديسا للدين .. فالعلماء أمام مسؤولية كبيرة .. ومن أفضل السبل لتكريس السلم والصلح والتعايش ..



1 _العمل على حصر الإختلافات بين المذاهب والأديان في إطار لا يتعدى الرؤى الإجتهادية وعدم إلغاء وجود الآخروإحترام رأيه وشرعية خياره .



2_الإطلاع والإنفتاح على الرأي الآخر والخروج من شرنقة التعصب الطائفي مما يتيح فرصة الدراسة والقويم على أساس من المعرفة والدراسة .



3_إعتماد الحوار كمنهج للتعامل مما يسهم في تجاوز الحساسيات والحواجز النفسية .. والحوار هو منطق الرسل والأنبياء والأئمة و المصلحين .



4_الموضوعية في إتخاذ المواقف دونما تعصب .. فعن الإمام الصادق عليه السلام (من تعصب عصبه الله بعصابة من نار .



5_التأكيد على الوحدة الإسلامية والوطنية وحسن التعامل مع الآخرين والتشديد على سوء التفرقة والتناحر.



6 _شرعنة مفهوم المواطنة الصالحة بعيدا عن العناوين القومية أو الطائفية وغيرها.



7_الإعتراف بوجود التعددية في المدارس الفكرية والتعددية السياسية والعمل على تكريس التعايش السلمي ضمن النسق التعددي .









*بحث نشر في مجلة النافذة الثقافية .