السبت، 12 يونيو 2010

فقه إسلامي

دور الفقه الإسلامي في نهضة المسلمين
الاجتهاد أنموذجا

بقلم : السيد محمد الياسري

  الفقه في اللغة هو العلم بالشيء والعلم له "1" .. قال تعالى (( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول )) "2" .. وهو فهم الشيء الدقيق .. قال تعالى (( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم )) "3" .. وإختار ذلك أبو إسحاق المروزي كما نقله عنه الزركشي في المنثور في القواعد وينقل الزركشي عن القرافي قوله (( وهذا أولى ولهذا خصصوا إسم الفقه بالعلوم النظرية ، فيشترط كونه في مظنة الخفاء ، فلا يحسن أن يقال : فقهت أن الإثنين أكثر من الواحد .. ومن ثم لم يسمى العالم بما هو من ضروريات الأحكام الشرعية فقيها )) .. وقيل هو أي الفقه فهم غرض المتكلم من كلامه ، سواء أكان الغرض واضحا أم خفيا وإختاره الرازي "4" . وقال إبن الأثير (( الفقه في الأصل الفهم وإشتقاقه من الشق والفتح )) . "5" .
  أما في الإصطلاح فقد عرفه الفقهاء العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية "6" .. أي ما يرادف لفظ الشرع .. فهو العلم المتكفل بالبحث عن الأحكام الشرعية المتعلق بها خروج الإنسان المكلف من عهدة التكليف والإمتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى والإنتهاء عن نواهيه .. والتوفر على ذلك فيه خير الدارين ورقي المجتمعات الإسلامية .
فمتعلق هذا العلم من الأحكام الفرعية هو ((أفعال المكلفين وتروكهم سواء كانت تكليفية كالوجوب والحرمة أو وضعية كالملكية والطهارة وسواء كانت متعلقة بالفرد في سلوكه الشخصي أو بالأسرة والعائلة أو بالمجتمع والدولة والسلوك العام .. أما أدلتها التفصيلة ففيه إخراج للفقه التقليدي أي علم المقلد بفتاوى مقلده فإنه ليس من الفقه الإصطلاحي فيختص علم الفقه بالإجتهادي كما يختص عنوان الفقيه بالمجتهد دون المقلد )) "7" .
  فالفقه هو عمل بشري يحاول فهم النصوص الشرعية من كتاب وسنة لوضع أحكام للوقائع الحادثة وتجلية النظام التشريعي الكامل في الإسلام .
  من هنا يكون الفقه الإسلامي مرتكزا أساسيا لأي حركة نهوض إسلامي .. ولا يمكن للمسلمين أن ينهضوا بواقعهم بعيدا عن الفقه ومتعلقاته .
  سيما الفقه الإسلامي الإمامي الذي يمتاز بعدة أمور منها :
1_ الإستناد الى الكتاب والسنة المروية عن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " بواسطة عترته الطاهرة وأتباعه الصادقين الضابطين بلا إنقطاع .
2_ سعة المنابع الحديثية بفضل عطاء أهل البيت "عليهم السلام" الذي دام 250 سنة بعد وفاة الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " لذلك فلا يوجد عجز حديثي كما في بعض المدارس الفقهية التي حاولت اللجوء الى إستعمال إستنباطات ظنية لأن النصوص لا تسعفها لتغطية إحتياجات الفروع الفقهية المستجدة .
3_ نقاوة المصدر تمثل ركيزة أساسية في هذا الفقه فلا يختلف إثنان من المسلمين فيما تتمتع به عترة النبي " صلى الله عليه وآله وسلم" من فضل وطهارة وصدق فهم قرين القران الكريم كما ورد .
4ـ إعطاء العقل أهمية خاصة إنطلاقا من الكتاب الكريم (( إن في خلق السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب )) و((ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )) و((أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها)) .
  وعن أبي جعفر " عليه السلام " قال (( إنما يداق الله العباد يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا )) .
وعن أبي عبد الله " عليه السلام" قال (( من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنة )) . وقد حدد الشرع الإسلامي صلاحيات هذا العقل ومساحة تحركه في فهم النصوص والأحكام .
وبالعقل دخل الفقه الى باب الملازمات العقلية .. كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، وحرمة الشيء وفساده ، وتوقف تنجز التكليف على البيان وقبح العقاب بلا بيان ، وإستلزام الإشتغال اليقيني البراءة القطعية .. الى غير ذلك مما يبحث عنه في الملازمات العقلية .
5_ كما أن للإجماع الكاشف عن وجود نص معصوم موقعه في الفقه الإسلامي الإمامي ولكنه ليس حجة بنفسه وإنما لكشفه عن وحود دليل شرعي لدى المجمعين .
6_ كما أن الفقه الإسلامي الإمامي لا يغفل العرف لتحديد المفاهيم وبيان الأوضاع كالرجوع الى قول اللغوي .

  وبعد هذه الإلمامة السريعة بالفقه تسنى لنا معرفة موقعه في نهضة المسلمين المعاصرة .. فالنهضة مشروع أمة وهو مشروع كبير يحتاج الى تمتين بناه التحتية وتشييده على أرض صلبة .. فلا نهضة بدون فقه إسلامي شامل يواكب العصر ويلاحق مستجداته .. ولا يتوهم أحدنا اليوم كما توهم بالأمس بإمكانية النهوض بالمسلمين بعيدا عن الفقه والفكر الإسلاميين فقد فشلت محاولا المحدثين من دعاة التغريب ومسخ الهوية لأنها تصطدم بالسماء وأنى لها القوة لذلك .
ولكي يواكب هذا الفقه العصر ويكون مرجل النهضة الإسلامية يجب أن لا نحتجزه عند عصر أو زمن محدد وأن لا نعطي للعقل المسلم جرعات تخدير وذلك بإيقاف باب الإجتهاد ..
 ومن واجبي أن أنقل للمذاهب الإسلامية تجربة ثرية حيث إمتازت المدرسة الفقهية الأمامية بترك باب الاجتهاد وإستنباط الأحكام الشرعية مفتوحا أمام فقهائها على مر العصور مما جعل الفقه موافقا لحاجة العصر ومتطلبات الحياة وإحتياجات البشر .
الأمر الذي ألفت الدكتور حامد حنفي فأشار إليه بقوله (( أما علماء الشيعة الإمامية فإنهم يبيحون لأنفسهم الإجتهاد .. ويصرون عليه كل الإصرار ولا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا ، وأكثر من ذلك نراهم يفترضون بل يشترطون وجود "المجتهد المعاصر" بين ظهرانيهم ويوجبون على الشيعة إتباعه وتقليده دون من مات من المجتهدين ما دام هذا المجتهد إستمد مقومات إجتهاده ـ أصولها وفروعها ـ من سلفه من المجتهدين وورثها عن الأئمة كابرا عن كابر ، وليس هذا غاية مايلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالإجتهاد، وإنما الجميل والجديد في هذه المسألة أن الإجتهاد على هذا النحو الذي نقرأه عنهم يساير سنن الحياة وتطورها ويجعل النصوص الشرعية حية متحركة نامية متطورة تتماشى مع نواميس الزمان والمكان فلا تجمد ذلك الجمود الممضد الذي يباعد بين الدين والدنيا أو بين العقيدة والتطور العلمي ، وهو الأمر الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم ، ولعل ما نلاحظه من كثرة عارمة من مؤلفات الإمامية وتضخم مطرد في مكتبة التشيع راجع الى فتح باب الإجتهاد على مصراعيه )) "8" .
  والإجتهاد مفردة هامة من مفردات الجهد البشري .. ودوره في بناء الحضارة الإنسانية تكاد تكون محورية في توجيه حركة الإنسان بإتجاه الصنع والإبداع لإرتباطها بالفكر الإسلامي من جهة وبالسلوك الإجتماعي من جهة أخرى ..
فهو كما يعرفه الفقهاء .. بذل الوسع لتحصيل الحكم الشرعي سوء في باب العبادات أو المعاملات أو العلاقات الإجتماعية والسياسية .. وحدوده التحري لضبط النص وفهمه . "9"
  وبالإعتماد على الإجتهاد كأداة معرفية وشرعية تستوعب حركة التأريخ وثقافات الشعوب يمكن تعبيد طريق جديدة للتنمية والنهوض والتقدم .. خصوصا إذا تم التخلص من العائق الإبستمولوجي المتمثل في فقه الفروع أو النزعة الفقهية التي تقابل الرؤية الكلية للقضايا الشرعية .
  وقد وضعت الشريعة الإسلامية الإجتهاد كمبدأ مستمر لفهم الكتاب والسنة الشريفة وإعتبرت المجتهد قطبا ومحورا ومرجعا للآخرين في شؤون دينهم .. وإعتبرت الإجتهاد واجبا كفائيا .. وحثت على طلب العلم ودراسة علوم الشريعة كما في آية النفر 122 من سورة التوبة .. وحثت على إلتزام قول العلماء .. قال تعالى (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) 43النمل .
وفي رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " عليه السلام " ((مجاري الأمور على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه))"10" .
  وقدد قرر الشهيد محمد باقر الصدر هذه الحقائق في مقدمة رسالته العملية " الفتاوى الواضحة " الرائعة من روائعه حيث يقول (( لو كانت أحكام الشريعة قد أعطيت كلها من خلال الكتاب والسنة ضمن صيغ وعبائر واضحة صريحة لا يشوبها أي شك أو غموض لكانت عملية إستخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنة ميسورة لكثير من الناس لكنها في الحقيقة لم تعط بهذه الصورة المحددة .. وإنما أعطيت منثورة في المجموع الكلي للكتاب والسنة .. وبصورة تفرض الحاجة الى منهج علمي في دراستها .. والمقارنة بينها وإستخراج النتائج النهائية منها .. ويزداد هذا الجهد العلمي ضرورة وتتنوع وتتعمق أكثر فأكثر متطلباته وحاجاته كلما إبتعد الشخص عن زمن صدور النص وإمتد الفاصل الزمني بينه وبين عصر الكتاب والسنة بكل ما يحمله هذا الفاصل من مضاعفات كضياع جملة من الأحاديث ولزوم تمحيص الأسانيد وتغير كثير من أساليب التعبير وقرائن التفهيم والملابسات التي تكتنف الكلام ودخول شيء كثير من الدس والإفتراء في مجاميع الروايات الأمر الذي يتطلب عناية بالغة في التمحيص والتدقيق .. هذا إضافة الى أن تطور الحياة يفرض عددا كبيرا من من الوقائع والحوادث الجديدة لم يرد فيها نص خاص .. فلابد من إستنباط حكما على ضوء القواعد العامة ومجموعة ما أعطي من أصول وتشريعات )) "11" .
  وفي الوقت الذي يقرر فيه المفكر الشهيد الصدر هذه الحقيقة في ضرورة الإجتهاد يشير الى تركيز الشريعة على خطورة وأهمية المجتهد العالم الفقيه العادل حيث (( رغبت الشريعة بشتى الأساليب في التقرب من العلماء والإستفادة منهم حتى جعلت النظر الى وجه العالم عبادة .. للترغيب في الرجوع إليهم والأخذ منهم وبقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شددت عليهم وتوقعت منهم سلوكا عامرا بالتقوى والإيمان والنزاهة .. نقيا من كل ألوان الإستغلال للعلم لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقا .. فقد جاء عن الإمام العسكري " عليه السلام " في هذا السياق قوله ( فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فاللعوام أن يقلدوه ) "12" .. وفي رواية عن الإمام الصادق " عليه السلام أنه قال ( من إستأكل بعلمه إفتقر ، فقيل له إن في شيعتك قوما يحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم ، ويتلقون منهم الصلة ، فقال ( ليس أولئل بمستأكلين إنما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ليبطل الحقوق طمعا في حطام الدنيا ) " 13" .. وفي حديث عن الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " ( الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا ) "14" .. وقد جاء في الحديث عنه "صلى الله عليه وآله وسلم " ( يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الضالين وإنتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد )) "15" .
  وقد أخذ الإجتهاد على يد الشهيد الصدر مداه الأوسع فالرجل سبق عصره وإنتقل بمدرسة النجف وبواقع الإجتهاد الفقهي الى مراحل كبيرة .
   فقد إتسم المنهج الفقهي عند المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر " قدس سره الشريف " بالإنفتاح والإستيعاب والمعالجة الأصيلة .
وهذا الأمر غريب على أجواء مدرسة النجف آنذاك التي كانت مغلقة على ذاتها في نطاق نشاط المكلفين الشخصي والإبتعاد عن قضايا المجتمع والحياة العامة والخوف من الجديد وسد الأبواب وبناء الأسوار العالية بوجه الفكر الوافد جيده ورديئه ..
الأمر الذي ترك مدرسة النجف في حينه بعيدة عن مواكبة تطورات العصر ومعالجة مستجدات الحياة بما يناسب .
ولذلك أسبابه الموضوعية ولعل من أبرزها التضييق السياسي الطائفي على الحوزات العلمية وعدم إفساح المجال أمامها للتفكير بالإبداع لأن التفكير بحد ذاته يعتبر جريمة في عرف بعض الحكومات الأمية الجاهلة الجائرة التي تعاقبت على حكم العراق .
ولعل المشكلة لم تقف عند حدود النجف الفقهية بل إتسعت لتشمل الإسلام .. كما يلفت الى ذلك السيد الشهيد بقوله (( شملت بعد أن سقط الحكم الإسلامي على أثر غزو المستعمر البلاد الإسلامية ، الإسلام ككل والفقه الإسلامي بشتى مذاهبه وأقيمت بدلا عن الإسلام قواعد فكرية أخرى لإنشاء الحياة الإجتماعية على أساسها وإستبدل الفقه الإسلامي بالفقه المرتبط حضاريا يتلك القواعد الفقهية )) " 1 " .
وقد أدى ذلك الى إنكماش الفقه من الناحية الموضوعية وقد إنعكس ذلك على ذهن الفقيه وعقله فتوجه بإتجاه المسلم الفرد وحاجته بدلا عن الجماعة الإسلامية .
  والأخطر أنه (( أدى الى تسرب الفردية الى نظرة الفقيه الى الشريعة نفسها .. وأصبح ينظر الى الشريعة ذاتها كأنها تعمل في حدود الهدف المنكمش )) " 2 " .
  ولإدراكه خطورة هذه النظرة طالب الشهيد الصدر في أكثر من موضع بتحرير الفقه من هذه القيود الوهمية المصطنعة التي تحجم دوره وتحتجزه في أطر ضيقة .. وإخراجه الى فضاء الإتجاه الموضوعي وفقه النظريات حيث يستوعب مستجدات وتطورات تطرأ بشكل مطرد على حياة المسلم .
  فقد حاكم الإتجاهات السائدة وأبرزها .. إتجاهان أحدهما يأسر الفقه في عالم النصوصوية والبحث النظري دون الإلتفات ... وآخر يرى أن التعمق النظري ليس إلا ترفا فكريا وتسلية عقلية وعليه يتم الإستغراق في أبعاد الواقع دون نظرية ..
وكلا الإتجاهين على خطأ فالفقه في فهم الصدر هو (( المرآة التي تعكس الإسلام )) " 3 " .
(( ففي الفقه تقرر أحكام الإسلام ، في الفقه تحدد مفاهيم الإسلام ، في الفقه تتبسط في إستيعابه وشموله ومواقفه تجاه مختلف المشاكل والقضايا التي تمتد إليها حياة الإنسان ، فالفقه بوصفه عملا علميا هو المرآة هو الواجهة هو المعرف هو المظهر الخارجي الحسي الذي يعيش حتى اليوم تنعكس فيه الشريعة بأحكامها ومفاهيمها وقوانينها فالفقه هو همزة الوصل وعلى دقة التعريف وشموله في هذا العرف وعلى المرآة يتوقف مدى إنعكاس الإسلام وبالتالي مدى وضوحه كرسالة منقذة قادرة على إستيعاب كل مناحي الحياة )) " 4 " .
  وأعرب السيد الشهيد عن ضرورة التحرر من عقدة الفقه الفردي أفقه الأحكام وضرورة الإنطلاق في عالم النظريات .. حيث قال (( ...تكون الحاجة الى دراسة نظريات القرآن والإسلام حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي .. بكل ما يملك من رصيد كبير وثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية حيث وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة فكان لابد له لكي يحدد موقف الإسلام من هذه النظريات أن يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل الى مواقف الإسلام الحقيقية سلبا وإيجابا لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع )) " 5 " .
  وبالرغم من إنفتاح الشهيد الصدر على النظريات والأطاريح الجديدة المختلفة فقد عالجها بأصالة كبيرة .
فهو مجتهد وفقيه مقتدر جامع للشرائط ينتمي الى مرسة أهل البيت "ع" التي إتسمت بالأصالة والصرامة المبدأية بل ينتمي الى المدرسة الأصولية تحديدا .. وقد حاز على أعلى درجات الفقاهة بالطرق التقليدية فأبحاثه الفقهية العالية والتي نزلت في كتابه " بحوث في شرح العروة الوثقى " واضحة بهذا الإطار .
  إذن فهو يتمتع بحصانة إجتهادية من الطراز الرفيع تؤهله ليعالج مختلف القضايا المعاصرة وقد تدر عبها في إنفتاحه على العصر وإنجازه " فقه النظريات " .
  وفقه النظريات هو (( عملية إستنباط وإكتشاف الإطار العام للموقف الفقهي تجاه مجال من مجالات الحياة )) " 6 " .
أو هو (( فهم النصوص الشرعية فهما يراد منه إكتشاف وإستخلاص النظريات الإسلامية ، أو أنه الإجتهاد القائم على الكتاب والسنة والعقل لإكتشاف النظريات الإسلامية )) " 7" .
  وموضوعه مجمل النظريات الإسلامية ويعنى بالبحث عن آلياتها وقواعدها العامة وإشكالياتها وفق المنهجية الموضوعية التي إبتكرها الشهيد الصدر وحدد أدواتها وضوابطها وكشف عن أصولها وقواعدها .
  فالصدر أول من تداول مصطلح " فقه النظريات " بصورة متكاملة فهو يقول (( أما حيث يريد الفقيه أن يتخطى فقه الأحكام الى "فقه النظريات" ويمارس عملية إكتشاف المذهب الإقتصادي في الإسلام فإن طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها وتحتم عليه أن تكون نقطة الإنطلاق مجموعة متسقة ومنسجمة من الأحكام فإن إستطاع أن تجد هذه المجموعة فيما يضمه إجتهاده الشخصي من أحكام وينطلق منها في عملية الإكتشاف لفهم الأسس العامة للإقتصاد الإسلامي دون أن يمنى بتناقض أو تنافر بين عصار تلك المجموعة .. فهي فرصة ثمينة تتحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيها يستنبط الأحكام مع شخصيته بصفته مكتشفا للنظريات وأما إذا لم يسعد بهذه الفرصة ولم يسعفه إجتهاده بنقطة الإنطلاق المناسبة فإن هذا لن يؤثر على تصميمه في العملية ولا على إيمانه بأن واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسر تفسيرا نظريا متسقا شاملا )) " 8" .
وقد أنجز الصدر وفقا للمنهج الموضوعي وفقه النظريات كتبه القيمة " إقتصادنا " و " البنك اللاربوي في الإسلام " و " المدرسة القرآنية " و " الإسلام يقود الحياة " .
  فإكتشف خلالها نظريات الإسلام في " الإقتصاد " وفي "المعاملات المصرفية " و "سنن التاريخ " و " عناصر المجتمع " و "نظرية الإسلام في السياسة ونظام الحكم " وغيرها من النظريات التي نقل بها الإجتهاد نقلات نوعية .

الثلاثاء، 8 يونيو 2010

الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)



الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
مشروع الماضي والحاضر والمستقبل


السيد محمد الياسري



  الكتابة بهذه السرعة وهذا الإقتضاب عن شخصية مدهشة كالإمام جعفر الصادق (ع) مجازفة علمية كبيرة فضلا عن كوني إنسان من طبعي القصور والتقصير لكنني حاولت تحري الدقة في التأمل حول بعض الآفاق الصادقية الرحبة .
وقصة الصادق (ع) قصة مثيرة وحياته مفعمة بالنشاط .. وهي تعلمنا كمعلم صامت أسباب رقي الحضارات وسقوطها .. ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)) يوسف 111.
  وتأريخه كجزء من الماضي صحيفة كبيرة مفتوحة أمام صحيفة المستقبل المطوية وبوعي ذلك القسم المفتوح وإدراك ملابساته ومعطياته يتم التعاطي مع الحاضر وإستشراف المستقبل وتحديد معالم مسيرته .
لكن أغلب الذين تعاملوا مع التأريخ بما فيه تأريخه (ع) غلبت على كتاباتهم مشاهد العرض السردي أو الطابع القصصي وهناك كتابات موسوعية إعتنت بحفظ تراثه وأخرى وصفية دفاعية تنتقي النصوص لتبرز صفات الإمام (ع) وكتابات إنتهجت العرض العبقري أو طرح النموذج البطل الذي لايقارن به أحد .. وهناك جهود تحقيقية وتحليلية ولكنها تجزيئية وليست موضوعية تتعامل مع النص في إطاره المحدود . وإتصفت أغلب الكتابات بغياب الإبداع إلا في محاولات ضلت يتيمة .
لذلك نحن بحاجة الى قراءة التجربة الصادقية قراءة "المشروع الماضي والحاضر والمستقبل" غير العاجز عن العطاء المستمر والنماء المتواصل .
  وإستنطاق تلك التجربة ومحاكاة رائدها الصادق ضرورة ملحة للخروج من أزمة الحضارة التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي المعاصر . وعند التأمل تجد أن مشروعه من أكثر المشاريع قدرة على الاستمرار والريادة لأنه مضافا الى بعده الروحي يتمتع بمرونة تسمح بإستيعاب الصيرورة التاريخية .. وتعطي زخما كبيرا للإجتهاد الذي يثري نفسه بمعطيات التجربة التاريخية .. فالمشروع الصادقي في تحقق مستمر .. وجعفر بن محمد المشروع مثل أعلى مرتبط بالمطلق فاستحضاره ليس حركة تماثلية تكرارية كما هي حركات التأسي والاستحضار للمثل المنخفضة " التي تأخذ بيدها ماضيها الى الحاضر وحاضرها الى المستقبل ليس لها مستقبل في الحقيقة وإنما مستقبلها هو ماضيها " 1 .
  فالدخول الى الحاضر "الحداثة" دون الإنطلاق من الماضي ومن النص الإلهي يلغي شخصية الأمة ، وفلسفتنا للحاضر والماضي أو للحداثة والتراث أن لا تقابل بينهما بل نرى بينهما تفاعلا مستمرا في إطار متطلبات الإسلام وصلاحيته .
وإذا أردنا الآن أن نستحضر نموذجا من مشروع وتجربة وتأريخ الإمام (ع) .. فهي كثيرة منها مشروع الحوار والجدل والمحاججة مع الزنادقة الذين كثروا في زمانه .. وهم إمتداد لتيار إلحادي عميق الجذور .. وعنوان الزنديق يطلق على الدهري والمشرك والملحد والثنوي والأخير كما في القاموس المحيط .. هو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو يبطن الكفر ويظهر الإيمان ـ أو جميع ذلك ـ .
  ومنها تجربته مع علماء السلطة الذين دأبت السلطات الحاكمة على الإستعانة بهم لإيجاد غطاء شرعي يبرر سلوك وتصرفات الحكام المستبدين ولإيجاد واجهات علمية مصطنعة لا تمثل جوهر الدين وحقيقة الإسلام .. وذلك من أجل مواجهة مواجهة الحق المتمثل بحجة الله في الأرض .
  ومن تلك الواجهات كان أبو حنيفة النعمان وإبن أبي ليلى مفتي الكوفة وقاضيها من قبل السلطة .. وغيرهما .
وقد أفشل الصادق (ع) في مباحثاته الفقهية وردوده العلمية مخططات السلطة العباسية وكذلك تجربته مع المعتزلة ومنهم عمرو بن عبيد كبير المعتزلة وواصل بن عطاء .. وغيرهما .
  ومشاريعه العلمية الكبيرة في مجالات الطب وعلم النجوم والبيئة وعالم الطبيعة وعلم الكيمياء وغيرها ..
ولاننسى تجربته مع جبابرة عصره كالمنصور العباسي فمشروعه برمته إعتبره المنصور تهديدا لجبروته فضلا عن إستغلال الإمام الفرص لقول كلمة الحق بوجه ذلك السلطان الجائر وهي أعظم الجهاد كما ورد ..
لذلك كان المنصور الدوانيقي وعصابته الإنقلابية يتحينون الفرص للقضاء على الإمام حتى قتلوه بالسم .
ولديه تجارب أخرى مع الصوفية والمتزهدة الذين حاولوا إغراء الناس بمظاهر التقشف والتزهد كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبّاد بن كثير وغيرهم .
  وإذا أردنا أن نتعدى هذه المشاريع والتجارب ومحطات التأريخ المضيئة لنأخذ واحدا من مشاريعه لنقف مليا ونتأمل في بعض أبعادة ولا أقول ندرسه دراسة حفرية لأن ذلك يحتاج الى وقت أطول ..
  يجذبني كثيرا مشروع "ماضي وحاضر ومستقبل" ويحفزني على تسميته "جيش الأربعة آلاف طالب" .. ففي معمعة الإنحراف الديني والخلقي أنشأ جيشه المظفر حارسا أمينا للكيان الإسلامي .. وتميز جيشه بالإحتراف في شؤون الفقه والآداب والإصلاح الإجتماعي والفلسفة والعلوم مع طابعه الأخلاقي والقيمي ، ليتجند في خدمة الإنسان .
يقول سليمان الكتاني وهو كاتب مسيحي " يكفينا فخرا أن نتباهى بعصر سبقنا بألف وأربعمائة سنة حققت مدينة يثرب ـ والكوفة ـ مالم نتوصل نحن اليوم الى تحقيقه ، ولو أن المنصور الدوانيقي إستجاب لذكرى الإمام وطاوعته بالإستجابة أجيال الأمة المستمرة بنا حتى الآن ، لكان لنا وجود حاضر لأمة تنبذ أمريكا ـ وإسرائيل والتكفيريين ـ فعلا وقيمة ، فيا للحسرة الجسيمة نقولها الآن ونحن صاغرون " .
  "مدرسة إستطاعت أن توفق بين التعارضات التي تجاذبت علم الكلام في الغرب المسيحي كما في الشرق الإسلامي ، فإذا كان ديكارت في الغرب قد حطم الثقافة لمصلحة العقل والغزالي في الشرق أطاح بالثقافة لمصلحة الإيمان " فإن أهمية المدرسة الجعفرية أنها جمعت في علم الكلام بين الثقافة والإيمان وبين الإيمان والعقل ..
وهي ثورة فكرية حضارية شاملة إنطلقت في منتصف القرن الثاني الهجري حين أوصاه أبوه الإمام الباقر (ع) بصحابته فأجاب قائلا "جعلت فداك والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في مصر فلا يسأل أحدا" وقد حقق ذلك في جامعته الكبرى أو "جيش الأربعة آلاف طالب " .
  وكان كل واحد من هؤلاء الطلاب شخصية علمية متألقة وكانت لهم مساهمات جادة وكبيرة في مختلف الإختصاصات والعلوم ..
وقد قال الحسن بن علي بن زياد الوشاء وهو من تلامذة الإمام الرضا (ع) ومن المحدثين الكبار "أدركت في هذا المسجد ـ الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد " كما في فهرست مصنفي الشيعة .
وكان في طليعة هذه الجامعة ـ الجيش ـ في المجال الفقهي النجباء الأربعة زرارة بن أعين وبريد بن معاوية وأبو بصير ومحمد بن مسلم ويلحق بهم أبان بن تغلب ..
  وفي المجال الكلامي هشام بن الحكم ومؤمن الطاق محمد بن علي بن النعمان الأحول .. وفي مجال الكيمياء جابر بن حيان الصوفي الطرسوسي وفي مجال العرفان والسر والحكمة جابر بن يزيد الجعفي وأبي حمزة الثمالي .. وغيرهم.
واليوم ومن منصة هذا المؤتمر أوجه خطابي لعلماء النجف الأشرف والحواضر العلمية الأخرى في العالم الإسلامي بكل تقدير وإحترام .. أقول يا سادتي ومشايخي الكرام أنتم تعتبرون أنفسكم وحوزتكم ومنهجكم إمتداد لمدرسة الإمام الصادق عليه السلام والكثير من المؤرخين قالوا أن جذور مدرسة النجف العتيدة تضرب في العمق أبعد من الفترة التي إنتقل فيها الشيخ الطوسي من بغداد الى النجف فهي إمتداد لمدرسة الكوفة الجعفرية .. فإذا أردت أن أنقد للبناء لا للهدم فإن الإمام الصادق عليه السلام عندما قدم الى الكوفة في العقد الرابع من القرن الثاني الهجري وبقى فيها لمدة عامين وأسس جامعته كان من أبرز سماتها التكامل الفكري والتجديد في المناهج والأساليب وهذا مفقود في حوزتنا اليوم ..
  وإذا كان الإمام قد أدخل الإختصاص منذ ذلك العهد فنحن اليوم أبعد بكثير عن الإختصاص . فلا نعتبر مرحلة تطورية على تلك المرحلة مع أنه قانون طبيعي تفرضه حركة تراكم التجربة .
  وإذا كان مسجد الكوفة الذي إحتضن علوم أهل البيت وأصل المنهج القرآني الإلهي في نفوس الالاف من الطلبة فلا نجد للقرآن منهجا رئيسيا في الحوزة العلمية اليوم فضلا عن العلوم الإنسانية والطبيعية الأخر ..
أما الحديث عن الكوفة ومسجدها اليوم فهو حديث ذو شجون .. فتطوير المؤسسة الحوزوية ضرورة ملحة .. على مستويات النظام والإدارة والمناهج والدور الإجتماعي .. والعالم اليوم يشهد تطورا هائلا وهو لا ينتظرنا حتى نلحق به .. وعقول الناس تتسع بصورة إنفجارية والناس بدئوا يطالبون بالدليل بعد أن كانوا يطالبون بالحكم فحسب .. لأن خطابنا يتعلق في نمط حياتهم وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة ..
  ولابد من الإعتراف الى أننا بحاجة الى بذل جهود إستثنائية لنتقل الى مرحلة الفعل فضلا عن ردود الفعل السريعة لأن ردود الفعل التي نقوم بها متأخرة جدا عما يفرزه العالم الحديث في مختلف الحقول والمجالات .. في حوزتنا نقاط قوة وفيها نقاط ضعف ينبغي تحديدها بصورة دقيقة لنعمل على تحويل الضعف الى قوة.













• مشاركة في مؤتمر الإمام الصادق ع في النجف الأشرف .

الاثنين، 7 يونيو 2010

المصالحة الوطنية في العراق .. مقاربات دينية

المصالحة الوطنية في العراق مقاربات دينية


السيد محمد الياسري


  الإصلاح ضد الإفساد والاستصلاح ضد الإستفساد والعرب تؤنثها ، يذكر ويؤنث ، الصلاح ضد الفساد ورفع التنازع و(الصلاح) بالكسر مصدر (المصالحة) والاسم (الصلح)،ويعني السلم والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس يقال منها إصطلحوا وتصالحو..
  قال تعالى ((ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وأدعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين))(56) الأعراف.
  وقال أيضا((...فلا جناح عليهما أن يصلحها بينهما صلحا والصلح خير.....)) (36) البقرة.
  وأيضا ((وإن تصلحوا وتتقوا فأن الله كان غفورا رحيما)) (29)البقرة.
  وأيضا ((إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم وأتقوا الله لعلكم ترحمون))الحجرات..
  وقال ((وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لايحب الظالمين))
  وقال سبحانه ((ولاتجعلوا الله عرضة لإيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم)) (224)البقرة .
  وقال ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما))(114)النساء،
  وأيضا ((فأتقوا الله وإصلحوا ذات بينكم ..))الأنفال ،وكذلك ((ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها...))(85)النساء



  فعلى ضوء هذه الآيات الكريمة نفهم أن روح القرآن الكريم تصور السلم هو الأصل في الإسلام والحرب حالة طارئة إضطرارية .. وتصور أن الصلح هو الأصل وهو خير بينما التقاطع والتنازع والتنافر شر طارئ يجب زواله ، وتؤكد على روحية التسامح .. فيتنازل الإنسان عن حقه من موقع القدره على أخذه .. ويتوقف عن الإنتقام لنفسه ..
  فروح القرآن في مواضع عديدة يؤكد على التسامح ونفي الإكراه والكراهية في الدين ، وإشاعة العفو والسلام ، والعدل والإحسان والتراحم ، والحوار ،والحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن والمحبة والصبر والمداراة والصفح الجميل والهجر الجميل وغير ذلك من معاني اللين والسماح ، وإحترام الآخر، والمصالحة والعيش المشترك.....والأمن السياسي والإجتماعي والثقافي والأخوة الوطنية في العراق والسلم المجتمعي .







المصالحة والصلح في السنة الشريفة



  حفلت السنة الشريفة بمئات النصوص التي تؤكد على أهمية المصالحة والصلح في إشاعة قيم الإسلام.



*قال أبو عبد الله عليه السلام: ملعون ملعون رجل يبدؤه أخوه في الصلح فلم يصالحه . البحار ج74 ،ص236 باب حقوق الإخوان .

*((عن الصادق عن أبائه قال : قال رسول الله (ص) : ما عمل امرء عملا بعد إقامة الفرائض خيرا من إصلاح بين الناس ، يقول خيرا وينمي خيرا)). البحار76، ص43 باب الإصلاح بين الناس . ج1



* بهذا الإسناد قال : قال النبي (ص) ((إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم . البحارج76، ص43 ج2 .



* عن حبيب الأموي قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا . الكافي ج2 ، ص 166 ج1 .



* عن أبي عبد الله (ع) قال : لأن أصلح بين إثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين . الكافي ج2 ،ص167 ج2 .



* عن مفضل قال : قال أبو عبد الله (ع) إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي . الكافي ج2 ،ص167 ج3 .



* في وصية أمير المؤمنين ع للحسنين ع أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإني سمعت جدكما "ص" يقول إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام .. نهج البلاغة ص977في ر47.



* وقال الصادق ع : أكرم الخلق على الله بعد الأنبياء العلماء الناصحون والمتعلمون الخاشعون والمصلح بين الناس في الله . جامع الأخبار ص 185.



* وقال "ع" من أصلح بين الناس أصلح الله بينه وبين العباد في الآخرة والإصلاح بين الناس من الإحسان ، ورأس المال العلم والصبر وذكر الجنة عبادة ولا يكون العبد في الأرض مصلحا حتى يسمى في السماء مصلحا.





* قال النبي "ص" رحم الله عبدا تكلم فغنم ، أو سكت فسلم ، إن اللسان أملك شيء للإنسان , ألا وإن كلام العبد كله عليه إلا ذكر الله أو نهيا عن منكر أو إصلاحا بين الناس وقال الله تعالى ولا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس .جامع الأخبار 185.



   ومفهوم المصالحة في العراق أوسع من ذلك فهو إزالة للنفار .ورفع للتنازع الذي نهى عنه القرآن الكريم ((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وإصبروا إن الله مع الصابرين )) الأنفال 46.
  وهو نبذ للتفرقة (( ولا تكونوا كالذين تفرقوا وأختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )) آل عمران 105.  وهو إعتصام بحبل الله ((واعتصموا بحبل الله جميعا وأذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين لكم الله آياته لعلكم تهتدون )) آل عمران13.
وهو ترسيخ لمبدأ الأخوة ((إنما المؤمنون إخوة ))الحجرات 10 .وهو إشاعة الرحمة بين الناس ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )).



  وهو نفي للإكراه ((لا إكراه في الدين ،فقد تبين الرشد من الغي ))القرة256. وهو دفع بالتي هي أحسن (( إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ول حميم )) وهو ولاء (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) التوبة 71. وهو طريق الوحدة (( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون )) الأنبياء92.



  فمفهوم المصالحة إعتراف بالواقع الإنساني مع ضمان العدالة في قبال التسليم للواقع القائم وفي قبال الطوبائية والمثالية التي تناقض الواقع ..



  فهو اذا توازن ومرونة وشمول ووسطية ..ينطوي على التعاون والتوافق والتقدير والحب والسلام . عند الإختلاف ونبذ التكفير والتفسيق والإتهام بالإبتداع وعدم المؤاخذة بلوازم الرأي والتعامل بإحترام عند الحوار وتجنب الإساءة لمقدسات الآخرين والحرية في اختيار الدين والمذهب .. وقبول بالتعددية السياسية،من هنا ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية كتابا وسنة ..
قال رسول الله (ص) ((ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم يد على من سواهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل )) صحيح البخاري ج3 ص26 إحياء التراث.



  وقال (ص) (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا و لا تجسسوا ولا تناجشوا وتحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام .التاج الجامع ج5 ص29.



  وقال (ص) (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مؤمنا ستره الله يوم القيامة) المصدر.



وعن عبد المؤمن الأنصاري .قال : دخلت على الإمام أبي الحسن (الكاظم) وعنده محمد بن عبد الله الجعفري وإليه فقال (ع) : أتحبه ؟ قلت : نعم وما أجبته إلا لكم . فقال (ع) : هو أخوك ، والمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه . ملعون ملعون من أتهم أخاه ،ملعون ملعون من غش أخاه ، ملعون ملعون من لم ينصح أخاه ، ملعون ملعون من إستأثر على أخيه ،ملعون ملعون من إغتاب أخاه ،البحار ج71 ص 236.



  من هنا نفهم أن المصالحة ليست خيارا بل ضرورة لنتيجة استحقاقات الواقع العراقي الذي حاول البعض أن يبث فيه روح الفرقة والتنازع والتناحر والهدم وسادت فيه لغة ردود الفعل والتدليس والتشكيك الذي نجم عنه سلب استقرار المجتمع ،ارتكبت فيه المحرمات والكبائر تحت يافطة المنافسه السياسية ومنها التكفير والغيبة والنميمة والبهتان والكذب وشهادة الزور والثناء الزائف على المؤيدين من الخصوم والافتراء والتجسس الحرام ويتضح ذلك من خلال ممارسة الإعلام في تزييف الواقع والوقائع ، وتفشت ثقافات سوء كالتعصب والإنقياد الأعمى والطائفية والعنصرية والقومية وتقديس الرمز أو الحزب ، وكل ذلك من إسقاطات الواقع الظلامي ..
  الذي يحتم علينا أن ننزع جميعا الى مصالحة مع الذات ومصالحة مع القيم ومصالحة مع الوطن ومصالحة فيما بيننا ، وهذا النوع من المصالحة يكون مدعاة للوفاق الوطني ، وتوفير أسباب التقارب بين مصلحة النظام ومصلحة الشعب ، ومدعاة للإقلاع عما يزعزع العلاقات الإجتماعية بين المواطنين .



إستحضار التاريخ



  ولتأسيس رؤية سياسية وحضارية على خلفية تعتمد الرؤية العلمية للتأريخ .. حول مشروع المصالحة الوطنية في العراق .. للإستضاءة والكشف عن عوامل الفشل والنجاح والتقدم والتأخر والنهضة والإنحطاط ، ضمن مقاربة هدفها تمييز عناصر القوة من عناصر الضعف في تاريخنا الإسلامي ..



  فإن عملية إستحضار التاريخ الإسلامي في هذا المجال تعني إستحضار تجارب رسول الله (ص) . في منطلق دعوته الإلهية المباركة ..
  ومن تلك التجارب ((المؤاخاة)) التي إستطاع رسول الله من خلالها التغلب على التناقضات الداخلية القائمة بين الأوس والخزرج والتناقضات المتوقعة بين المهاجرين والأنصار .. وهي المؤاخاة الثانية بعد مؤاخاة (مكة ،بين أصحابه من قريش ومواليهم العبيد المعتقين ) ، ومن الواضح أن الهدف من هذه المؤاخاة هو تحطيم الإعتبار الطبقي ، القبلي ،الإقتصادي ، والتعبير العملي عن مبدأ المؤاساة ، والمساواة الإسلامي الى جانب تعميق العلاقة الإيمانية بين المسلمين .
أما المؤاخاة الثانية فكانت في المدينة فقد كانت بين المهاجرين_أحرارا_ وموالي _والأنصار للأسباب والدواعي التي ذكرناها في مقدمة هذه الفقرة ، وكان الطابع الإجتماعي ،الإقتصادي ،السياسي لهذه المؤاخاة بارزا الى جانب البعد الإيماني الإنساني الذي هو دائما في أساس كل عمل تنظيمي في الإسلام ، فقد كانت هذه المؤاخاة تقتضي المشاركة في الأموال والمواريث الى أن رفع الله حكم التوريث بها ... وبهذا العمل أرسى النبي أهم الأسس في بناء الأمة الإسلامية ورسخ مفهومها في عقول وقلوب المسلمين . نظام الحكم والإدارة في الإسلام / شمس الدين ص526 ط7 ،



  وصلح الحديبية ،حيث صالح الرسول (ص) قريشا كما صالح خيبر ووادع الضميري في ....... الألواء وصالح أكيدر دوحة وأهل نجران .. ومدار الصلح هو مصلحة المسلمين (سواء أكان ذلك في صلح الحديبية أم في طريقة الإمام علي في مواجهة الموقف بصفين . أم في صلح الإمام الحسن عليه السلام ) . تفسير من وحي القرآن . فضل الله المجلد الرابع ص 90 ط الثانية .



  وفي هذا الصدد نجد الإمام علي (ع) يكتب لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي ((ولا تدفعا صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا ، فأن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك ، وأمنا لبلادك ، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم وإتهم في ذلك حسن الظن )) نهج البلاغة ج2 ص 140 .



المصالحة والصلح في الفقه الإسلامي ..



  أفرد الفقهاء في إيمانهم ورسائلهم بابا كاملا تحت عنوان (الصلح) من حيث كونها معاملة توجد بالقصد بين المتعاملين ، وإن هذه المعاملة لازمة وغير قابلة للفسخ .. بإعتبار إبرامه لفض المنازعات فإذا فسخ عادت المنازعات ولقيام الإجماع على ذلك ، كما عن السرائر والتذكرة نقلا عن رياض المسائل ، وقد عرفه الفقهاء ((عقد شرعي للتراضي والتسالم بين شخصين في أمر من تمليك عين أو منفعة أو إسقاط دين أو حق أو غير ذلك مجانا أو بعوض )) منهاج الصالحين /الخوئي ط 28 ص192 .
وهو الإتفاق بين طرفين على تمليك عين أو منفعة أو على إسقاط دين أو حق بعوض أو مجانا ومع النزاع وبدونه . فقه الشريعة /فضل الله ج2 ص513 ط4 .
  وقالوا (ويجوز إيقاعه على كل إمرء في كل مقام إلا إذا كان محرما لحلال أو محللا لحرام) . منهاج الصالحين . السيستاني ج2 ص373 ط5 .
  وأفرد بعضهم عنوانا أسماه (الصلح العام ، حيث جاء ، ورد الصلح أيضا في الشريعة كمقاولة نافذة المفعول بين طرفين ن في الجهاد المقدس بين جيش المسلمين وجيش الكفار ، فكلما إتفق عليه الطرفان من فقرات الصلح كانت نافذة وحجة شرعا ، ولا يجوز مجاوزتها وعصيانها .
  وقد ورد عن النبي (ص) في مصادر الفريقين عن سبطه الإمام الحسن (ع)، أنه يصلح بين طائفتين من المسلمين . يعني معسكره والمعسكر الأموي ومن هنا كان الصلح الذي أمامه بينه وبين الأمويين نافذا وحجة شرعا من الناحية الفقهية ولا يجوز مخالفته وعصيانه ..
  وقد سمعنا في كتاب المشتركات . أن هناك من الأراضي ما يسمى ((أراضي الصلح)) وهي ما صالح عليه جيش المسلمين جيش الكفار على أساس أن تكون الأراضي التي تدعون ملكيته سلفا ، ملكا لهم بإستمرار ، ومن هنا يقال شرعيا وفقهيا أن هذه الأراضي تكون لأصحابها وإن كانوا كفارا .. ما وراء الفقه الصدر الثاني ج5 ص16 ط1 .



  من هنا حصل لدينا شكلان من أشكال الصلح أو أكثر غير ما سبق في الصلح الخاص لو صح القول ..



الشكل الأول :الصلح بين جماعتين أو قل بين أي جماعتين أو مجتمعين أو أميرين سواء كان هناك حرب بينهما أو لا .



الشكل الثاني :الصلح على أمور غير مالية بل على أمور معنوية تتمثل في سلوك معين يفرض على أحد الطرفين أو كلاهما من خلاله . المصدر السابق
وكل ذلك حجة بإعتبار ماورد في الصحيح (الصلح جائز بين المسلمين ). الوسائل 18_443 أبواب أحكام الصلح .



  وكذلك الإستدلال بصلح الحسن (ع) وهو قطعي الصدور ب3 ج1 وفيه إجماع بين الناس تاريخيا وهو ما يتوفر في كلا الشكلين السابقين .. ومن حيث النظر الى الصلح مع الباغي ((فإن فائت فإصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا )) الحجرات 9.



دور علماء الدين في المصالحة الوطنية في العراق



  يشغل علماء الدين موقعا مهما في خارطة المصالحة الوطنية في العراق .. ويشكلون صماما كبيرا من صمامات الأمن والسلم الأهلي .. وهم الإتجاه المؤهل والقادر على شق طريق المصالحة والوحدة أمام العراقيين أكثر من غيرهم ، فهم رهان الشعب الدائم للخروج من الأزمات المستعصية ، وما زال رصيدهم الأكبر في نفوس الناس من حيث الثقة بهم والتعاطي مع دعواتهم بجد ولما يتضمنه الدين من تأكيد على مبادئ الوحدة والسلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. الأمر الذي يمكنهم من التغلب على حالات اليأس والتشكيك والألتباس الذي تكتنف عقول وقلوب الناس ..





  ودورهم في مجال السلم في العراق كبير جدا لإن هذا الشعب من أكثر الشعوب إحتراما للعلم والعلماء وتقديسا للدين .. فالعلماء أمام مسؤولية كبيرة .. ومن أفضل السبل لتكريس السلم والصلح والتعايش ..



1 _العمل على حصر الإختلافات بين المذاهب والأديان في إطار لا يتعدى الرؤى الإجتهادية وعدم إلغاء وجود الآخروإحترام رأيه وشرعية خياره .



2_الإطلاع والإنفتاح على الرأي الآخر والخروج من شرنقة التعصب الطائفي مما يتيح فرصة الدراسة والقويم على أساس من المعرفة والدراسة .



3_إعتماد الحوار كمنهج للتعامل مما يسهم في تجاوز الحساسيات والحواجز النفسية .. والحوار هو منطق الرسل والأنبياء والأئمة و المصلحين .



4_الموضوعية في إتخاذ المواقف دونما تعصب .. فعن الإمام الصادق عليه السلام (من تعصب عصبه الله بعصابة من نار .



5_التأكيد على الوحدة الإسلامية والوطنية وحسن التعامل مع الآخرين والتشديد على سوء التفرقة والتناحر.



6 _شرعنة مفهوم المواطنة الصالحة بعيدا عن العناوين القومية أو الطائفية وغيرها.



7_الإعتراف بوجود التعددية في المدارس الفكرية والتعددية السياسية والعمل على تكريس التعايش السلمي ضمن النسق التعددي .









*بحث نشر في مجلة النافذة الثقافية .

الرأي والراي الآخر في القرآن


السيد محمد الياسري



   القرآن الكريم .. كتاب منهج .. قبل أن يكون كتاب مضمون .. بدأ دعوة الى الله وانتهى كتاب تشريع وتوجيه .. ((إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )) وما جاء فيه من مواقف تجاه الآخر إنما هي مصاديق لرؤية أوسع تمتد بإمتداد الحراك الثقافي على طول التأريخ .. ومن مجموع هذه المصاديق التي ذكرها القرآن يمكن إستخلاص الرؤية القرآنية وإكتشاف المنهج لإتخاذ المواقف ..
وللتعامل مع مقولة" الرأي والرأي الآخر " في ضوء الرؤية القرآنية نحتاج الى جهد تأملي ودراسه جاده لإستخراج الرؤية الموضوعيه في هذا الموضوع .. فقد سجلت مقولة " الرأي والرأي الآخر"حضورا ملحوظا في الساحات الثقافية والدينية والسياسية المعاصرة .. بل هي من المقولات التي تسيطر على اهتمامات الحياة الفكرية العالمية .والكلام فيها سجال بين مختلف التيارات .. فلا بد من استكشاف الرؤية الموضوعية للقرآن الكريم حول هذه المقولة ضمن الأنسقة العقدية والأنظمة الفكرية أي الرأي والرأي الآخر الديني والعقدي والفلسفي ..
   ولابد لنا في البدء أن نسلم ان هناك رأيا ورأيا آخر فالإختلاف مستحكم في هذه الحياة وهو الأصل فيها لذا لايمكن حذف ونفي الرأي الآخر.. فذلك إستفراد وإستبداد بالرأي ..
هذا هو قوام الحياة كل مفردة تقابلها مفردة اخرى وكل فكرة تقابلها فكرة اخرى وكل رأي يقابله رأي آخر سواء كان على نحو الضد أو المغايرة أو الإختلاف الكلي أو الجزئي ...الخ ..
   فثنائية "الرأي والرأي الآخر" ليست بدعة بل هي حالة طبيعية من حالات الإختلاف والتنوع الحاصل في أجناس البشريه وألوانها وأشكالها وخصوصياتها العرقية واللغوية والنسبية والمناطقية .. ومايستتبع ذلك من إختلافات على مستوى الواقع في القابليات والمزاج والأفكار والرؤى وبالتالي المعتقدات والمتبنيات الفكرية ..
وذلك التنوع والإختلاف لا يمنح الإنسان أية قيمة خاصة لرسم الفواصل بينه وبين الآخرين لتقوده الى حالة الإستعداد للآخرين والتعالي عليهم أو النظرة الدانية إليهم وهذا مايؤدي الى حالات التناحر والتنازع والتقاتل .
   وقد أقر القرآن الكريم هذه الحقيقة على إنها من وسائل الكمال الإنساني الذي ينشده كل عاقل ((وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) حجرات 13 ((ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فإستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا ))المائده 48((ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا زالوا مختلفين ))هود 18 . ولا يزالون مختلفين بالرأي والقابليات والملكات والقدرات والوعي الإجتماعي . ((نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ))الزخرف 32 ..
   أما الإختلاف على مستوى الدين فله اسبابه وله معالجاته وهو واقع ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما إختلفوا فيه وما إختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ))البقره213 ..
   إذن "الرأي والرأي الآخر" ضرب من الإختلاف ، ومنهج القرآن في التعاطي مع الرأي الآخر هو الحوار الهادئ بعيدا عن التوتر والإنفعال فليس الهدف الإفحام الآني وإخضاع الآخر للرأي المتبنى وإنما الهدف هو الوصول الى الحقيقة،وتضيع الحقيقه بإثارة بغي الآخر وجهله وعناده ((ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ))العنكبوت46.
   الجدل بالتي هي أحسن في التعاطي مع الرأي الآخر المعاند هو إسلوب القرآن أن يعرض المحاور رأيه دون أن يفرضه على الآخر .. ((قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وماأنزل الى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والإسباط وماأوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ))البقره136.
فالطرح القرآني في التعامل مع الرأي الآخر يتسم بالواقعية فلا يعيش التنازل ولا يعمق الخلاف بين الطرفين مادام في الأفق بريق حل للإختلاف لئلا يكون حاكما في الواقع ..

حكمة الرأي والرأي الآخر

   الرأي والرأي الآخر حقيقة قائمة منذ أن خلق الله الإنسان متفاوتا في الملكات والقابليات وفي الرغبات .. ليعيش في جو تعدد الآراء والثقافات .. وبالتالي الحوار والتثاقف بدون إرهاب فكري وبدون مشاريع نفي وحذف وإقصاء وإستبداد وعزل وتشويه وكتمان وتشنيع وصدّ الى غير ذلك من مصفوفة الصيغ الإقصائية .. ((لكل وجهة هو موليها)) و ((قل كل يعمل على شاكلته)) و ((فلذلك فإدع وأستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب أمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا   ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير ))الشورى 15.
  فالقرآن يؤكد على إحترام الرأي الآخر والتعامل معه كما هو لا كما نريد ((وما عليك إلا البلاغ والله بصير بالعباد)) و ((إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)) و ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )) و ((لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر ، وأدع الى ربك إنك لعلى هدى مستقيم(( .
  فإقرار القرآن بالرأي والرأي الآخر وتأكيده على نهج الحوار ومستويات التعاطي مع الآخر محاولة لفك أغلال التقليد الأعمى الذي يكبل فكر الإنسان وتحريره من العبودية الفكرية لبناء حضارة وثقافة من خلال التأمل والبحث والتحاور والأفكار الحرة لذلك أكد كثيرا على التفكر والتعقل وذم شديدا أولئك الذين لا يختارون نهج الحياة من خلال إعمال العقل ((إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ))الأنفال 22 ((لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ))الأعراف 179 ..
  وفي موضع آخر يصرح القرآن أن فلسفته في تبيين رسالات الله ليتفكروا فيها ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ))النحل44 ..
  فحكمة الرأي والرأي الآخر هي تلاقح الأفكار والوصول الى الرأي السديد فقد ورد عن الإمام علي (ع) ((إضربوا الرأي ببعض يتولد منه الصواب ))ميزان الحكمة وغررالحكم .وعنه (ع) ((من أستقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ))الكافي والفقيه وخصائص الأئمة ونهج البلاغة.

  وفي الوقت الذي أكد الأئمة (ع) وهم عدل القرآن الكريم على تضارب الآراء حذروا من الإستبداد بالرأي والإمتناع عن التواصل مع الرأي الآخر .. فعن علي (ع) ((لا رأي لمن إنفرد برأيه))كنز الفوائد ،بحار الأنوار. ((المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل))بحار الأنوار. ((المستبد متهور في الخطأ والغلط))غرر الحكم. ((من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل))غرر الحكم.
فدونما تعصب وإستبداد ودونما تنازل وتراجع ،وإنما عن طريق الجدال بالتي هي أحسن وعن طريق النقد والنصح والجرح والتعديل تنضج الآراء وتتكامل .
  وحكمة الرأي والرأي الآخر هي الحكمة .. فالحق ٌ لايمكن الوصول إليه إلا عن طريق العلم أو الحجة .. فمنطق القرآن مع الرأي الآخر هو الحكمة والموعظة الحسنة .. منطق الدليل والبينة والموضوعية والواقعية والإبتعاد عن منطق العناد والذات والإصرار على الباطل ..
  وقد أشار القرآن الى ذلك ((إدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ))النحل 125 . و((إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ))فصلت34 و((ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة))الأنفال42


أدب التعامل مع الرأي الآخر

1-التعامل مع الرأي لا مع صاحب الرأي .. وهو التعامل الموضوعي الذي لا تحكمه المواقف المسبقة تجاه صاحب الرأي سلبا أو إيجابا ..
فالمعيار القرآني في قيمة الرأي هو الرأي نفسه لا صاحبه .. فمن المشاكل التي يعاني منها النقد والتعاطي مع الرأي الآخر ... تعامله مع لغة ضبابية تتناول صاحب الرأي بالتجريح مهملة الرأي في ذاته .. فيتم التعامل مع الرأي الآخر بتناول حياة صاحبه بالتشريح وبيان عيوبها وهي لغة يعوزها الطابع العلمي .بينما يؤكد المنهج الإسلامي والقرآني على التعامل العلمي فعن رسول الله (ص) ((خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت))الفردوس ج2. وعن الإمام علي(ع) ((لا تنظر الى من قال وأنظر الى ما قال))غررالحكم، ينابيع المودة .
أما رؤية القرآن الكريم ومنهجه القويم ((فبشر عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب))الزمر17و18.
إستماع القول وإتباع أحسنه هو الأدب الذي ينبغي أعتماده في التعامل مع الرأي الآخر .. ولا أهمية للأقتدار السياسي أو الإقتصادي في إعتبار الرأي .. ولا يضر في قيمة الرأي المنطقي فقدان صاحبه لأسباب القوة السياسية أو الإجتماعية .. فالقرآن الكريم يلزم بالإذعان للرأي الحق المنسجم مع الموازين العقلية والمنطقية حتى وإن صدرت من الآخر المخالف ..
2-التعامل مع الرأي الآخر وفق المعايير العقلية والعلمية .. فالتعامل العلمي مع الرأي الآخر يكون بالإستناد الى البراهين العقلية والإستناد الى ما يؤمن به من الضمير بإنه حق .. وعدم الخوض في المجهولات .. فعن رسول الله (ص) ((إن من خيار أمتي قوما .. يتبعون البرهان )) حلية الأولياء ج 1و16. وعنه (ص) ((من أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله حتى ينزع)) السنن الكبرى ج 6 ، المستدرك على الصحيحين ج 4 ، كنز العمال . وعن زرارة :سألت أبا جعفر(ع) ماحق الله على العباد ؟ قال: ((أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون))الكافي ج 1.
أما آيات القرآن التي تشير الى إتباع العلم في التعامل مع الرأي الآخر فهي كثيرة ومنها .. ((وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارا تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))البقرة111 . ((ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ))الحج3. ((ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون))آل عمران66. ((أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أءله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ))النمل 64.
فمراعاة هذا الأدب كفيلة بإنهاء الإختلافات الناتجة عن خطأ الفكر والرؤية ((فلا يخصم من يحتج بالحق)) ((وبالحق يستظهر المحتج)) وهذا الأدب في التعامل مع الرأي الآخر المخالف واضح في القرآن الكريم كما في قصة إبراهيم (ع) ، فعن زيد بن أسلم :إن أول جبار كان في الأرض نمرود ،وكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ،فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار فإذا مر به ناس قال :من ربكم ؟ قالوا : أنت ، حتى مر به إبراهيم قال : من ربك ؟ قال : ((ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فإت بها من المغرب فبهت الذي كفر ))البقرة258 ، تاريخ الطبري ج 1 287.
3- ضرورة مراعاة القيم الأخلاقية في التعامل مع الرأي الآخر .. فذلك أدعى في الوصول الى التفاهم والإقناع .. وتحقيق الغايات المنشودة . إن عدم مراعاة الاخلاق في ذلك قد تعجز البراهين عن كشف الحقائق .. فإحترام الرأي الآخر والتعامل الحسن والصدق في الحديث وإنصاف الآخر وكل التوجيهات الأخلاقية في القرآن ضرورة قائمة في أدب التعامل مع الرأي الآخر . ((فمن صدقت لهجته قويت حجته)) غرر الحكم .
4- تجنب آفات التعامل مع الرأي الآخر. ومنها إتباع الظن ((ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ))النجم 28. ((ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ))الإسراء36.
ومنها الأهواء النفسية ((أفرأيتم اللات والعزى ومنوة الثالثة والأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ))النجم19- 23.
وفي هذا الصدد ورد عن الإمام علي (ع) ((أقرب الآراء من النهى أبعدها عن الهوى ))الكافي ج1 308 ،وثواب الأعمال 236/1 ..
وعنه (ع) وقد سأله زيد بن صوحان العبدي : أي الناس أثبت رأيا ؟ قال من لم يغره الناس من نفسه ولم تغره الدنيا بتشوفها )) تشوفت المرأة تزينت .. لسان العرب ..9 /185. الفقيه 4/383/5833،ومعاني الأخبار199/4.
وعنه ((اللجاج يفسر الرأي)) و ((اللجوج لا رأي له)) غرر الحكم 887،1087 .. ومنها التقليد((وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول قالو حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون))المائدة104.
وقوله تعالى ((وكذلك ما ارسلناه من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون))الزخرف23. ومثله في مواطن كثيرة من القرآن الكريم. يتبع


*محاضره ألقيت في دار الوحدة للمعارف القرآنية .


















الأحد، 6 يونيو 2010

إيذاء رسول الإنسانية "صلى الله عليه وآله وسلم "


إيذاء رسول الإنسانية "صلى الله عليه وآله وسلم "



السيد محمد الياسري

 
ابتلي رسول الإنسانية العظيم ((محمد بن عبد الله " ص" )) بأذى الجاهلين المتواصل .. منذ صدع بدعوته الإسلامية المباركة والى يوم الناس .. كما ابتلي من قبله من الأنبياء والرسل فكم من نبي حاربه قومه ونكلوا به بل وقتلوه لأنه شكك فيما يسطرون .. فلم يسلم نبي قط من الأذى ..
لكن مالقيه خاتم الرسل "ص" كان شديدا وقاسيا .. حيث أمعن الجاهلون في إيذائه ومعاداته ومواجهة دعوته ورسالته السماوية وشن الحروب الشرسة بالأيدي والألسن عليه .. وقد عبّر عن ذلك بقوله ((ما أوذي نبي كما أوذيت )) .. وكأن الكلمة تحكي واقعا مريرا مستمرا يتعرض له الرسول والرسالة ..
فمنذ بزوغ فجر الإسلام العظيم تنادت قوى الظلام لإطفاء نوره .. وأجمعت أمرها على التصدي له بمختلف الوسائل .. وكل غايتها القضاء على الرسالة الخاتمة لأنها الخطر الحقيقي الذي يهدد نزعاتهم الشريرة في السيطرة والنفوذ والتحكم بمقدرات بني البشر ..
ففي البدء إتخذت المواجهة أشكالا عدّة منها ((كتمان الحق وتحريفه )) و ((نقض العهود والمواثيق)) و ((النفاق والتضليل )) و ((الحسد والتعصب)) و ((التعالي والإستهزاء)) و ((الحقد والعدوان)) و ((وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )) 1 و ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن إتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم مالك من الله ولي ولا نصير)) 2 .
وفي المقابل كان موقف الرسول "ص" كما أرشده الله سبحانه في كتابه الكريم (( دعوتهم الى الحق وترغيبهم فيه)) و ((التحاج الى الحق)) و ((الرد على شبهاتهم)) و ((كشف نواياهم وإمتحان مدى صدقهم)) و ((إنصاف طلاب الحق منهم)) و ((رفض ولايتهم)) و ((إحترام العهود والمواثيق معهم )) و ((الحذر من إغوائهم وتضليلهم )) و ((التهديد والوعيد للمعاندين منهم )) و ((لعن وقتال المحاربين منهم )) .
وإستمرت الحملات العدائية الى العصور المتأخرة .. للإستمكان من فرض الهيمنة على على العالم الإسلامي وتمزيقه والإجهاز على وحدته .. والعمل على مسخ الشخصية الإسلامية وذلك بحرفها عن منابعها الفكرية والروحية الأصيلة .. لتصبح نسخة مكررة للشخصية الغربية .. فإستخدم الإستعمار سلاح ((التبشير)) في مواجهة العالم الإسلامي ..
وهي حركة في ظاهرها دينية بدعوى نشر الديانة المسيحية في العالم ولكنها في الجوهر حركة إستعمارية توسعية لا رابطة لها بالدين المسيحي ..
فأميركا لوحدها غطت نصف الكرة الأرضية بمبشرين يزعمون أنهم رسل خير وملائكة رحمة ودعاة لحياة روحية .. وكذلك فرنسا العلمانية التي تحضر أبسط الممارسات الدينية بل الواجبات على المسلمين والمسلمات بدعوى مخالفة الدستور العلماني تقوم بحماية رجال الدين المسيحيين في الخارج بينما ((اليسوعيون )) هم خصومها في الداخل ..
والأغرب أن الإتحاد السوفيتي الذي من صلب عقيدته محاربة الأديان قام بعد الحرب العالمية الثانية حينما كان يبغي التوسع السياسي والإقليمي .. يتظاهر بالعطف على رجال الدين المسيحيين ودعا الى ((مجمع مسكوني)) في ((موسكو)) وحضي المؤتمرون بمقابلة ((ستالين)) ..
وكانت حملات التبشير مسيئة بشكل فضيع للرسالة والرسول .. فقد عملوا على التلاعب بالقرآن الكريم والى ذلك يصرح المبشر المعروف (جون تاكلي) ((يجب أن نستخدم كتابهم ـ أي القرآن الكريم ـ وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه لنقضي عليه تماما يجب أن نري هؤلاء الناس أن الصحيح في كتابهم ليس جديدا وأن الجديد ليس صحيحا )) 3 .
وليس أقل من ذلك ما فعله المستشرقون .. ضمن خطوط الحروب الصليبية الممتدة منذ مئات السنين .. فقد عبأ المستشرقون كل طاقاتهم لبذر الشك وزعزعة إيمان المسلم .. من خلال الدس والتشويه الذي قاموا به للفكر والتاريخ الإسلاميين .. متسترين بقناع البحث العلمي والنقد .. وقد إهتموا بالكثير من موضوعات الدين الإسلامي .. وخصوصا تناولهم لشخصية النبي "ص" وسيرته بطريقة شيطانية خبيثة .. لإسقاط هذا الثقل في واقع المسلمين .. وقد إستفادوا من مواطن الشذوذ والتزوير والتحريف في السيرة النبوية .. التي حدثت على يد الحكمين الأموي والعباسي فقاموا بتسليط الضوء عليها وإظهارها على أنها السيرة الفعلية للرسول "ص" وبذلك يبدأ البحث النقدي لشخصيته "ص" .. وكشفت أقلام الكثير منهم في ذلك مدى الحقد والغريزة العدائية المتوارثة ضد الإسلام والمسلمين ونبيهم "ص" نبي الرحمة .

وقد برهن الإستكبار العالمي عن مدى حقده وخبثه وإدارته لخيوط المؤآمرة التي تحاك لإسقاط هيبة الإسلام والرسول "ص" وثقله بين المسلمين من خلال رعايته وحمايته للمجرم سلمان رشدي الذي تصدى لتشويه صورة الإسلام والإستهانة بمقدرات المسلمين كالإستخفاف بالرسول الأعظم "ص" والشتيمة والقذف في غاية الإستهتار ومحاولة تحريف القرآن وإستحقار الكرام من الصحابة بل تجرأ على جبريل الأمين ونال من إبراهيم الخليل "ع" .. إستهزأ بالله وآياته ورسله وملائكته وبالمؤمنين .. في كتابه سيء الصيت ((الآيات الشيطانية)) .. ولسنا بصدد إيراد الشواهد من ذلك الكتاب الضلال .. وهو بذلك يستحق القتل ولعنة الله فعن رسول الله "ص" ((من سبّ نبيا من الأنبياء فاقتلوه ومن سبّ وصيا فقد سبّ وصيا)) 4 وقبل ذلك في الكتاب ((إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذابا مهينا )) 5 .
وما رشدي سوى أداة أستخدمت لتمرير هذه الإساءة الفاضحة لذلك دافعت عنه القوى الإستكبارية والأنظمة العميلة في العالم .. مضافا الى نشر الكتاب من قبل مؤسسة النشر العالمية (( بنغوين فينكنغ)) ((pengvinviking)) وهي مؤسسة مشتركة من دار النشر البريطانية بنغوين ودار النشر الأميركية فاينكنغ ونفس المؤسسة كانت قد دفعت مبلغا قره 850 ألف جنيه إسترليني لرشدي مقدما ليكتب هذا الكتاب 6 ثم إن موقف وسائل الإعلام الأجنبية كان فاضحا للجهات التي تقف خلفه ففي صحيفة صنداي تايمز اللندنية ((Sunday times)) يعتبر الكتاب من البدائع الأدبية كتصوير فني جميل ولا تصل الى قمته أي قصة من القصص في عصرنا الحاضر !!
وفي صحيفة اللوموند يعتبر رشدي روائي وأديب مبدع من الدرجة الأولى والكتاب رواية عالية المستوى ونص أدبي ممتاز فكيف يمكن أن ندين هذا النص بحجة أنه يقوم بتجريح دين ما !! كما أن موقف الكيان الصهيوني كذلك عندما أعلن إستعداده لإستقبال رشدي في فلسطين المغتصبة وتوفير الحماية اللازمة له .. كما أن الموساد قدمت له حماية مدى الحياة وذلك دليل آخر على من يقف وراء المؤآمرة . 7 .
وقد ترجم ذلك الكتاب المشين الى سائر اللغات وخصوصا العبرية .. وكذلك الإهتمام البالغ المصطنع بكاتبه وإستقبال الرؤساء له .. فما هو الدافع الحقيقي وراء هذه وغيرها من الإساءات الكبيرة والخطيرة للدين الإسلامي الحنيف ورسول الإنسانية العظيم ؟ .
هل هو صراع بين ا؟لأديان ؟ وهل هو صراع بين الصليبية والإسلام ؟ وهل هو حقد دفين يضمره اليهود للمسلمين ؟ وهل هو صراع بين الغرب والإسلام ؟ أم هي مظاهر الصراع بين الشذوذ والإنحطاط الخلقي والهمجية في الحياة وبين القيم والأخلاق والإنسانية أي بين التضليلات الشيطانية وبين القيم السماوية ؟ . نعتقد أن الهدف هو كل الأديان السماوية لأن الكتاب تزامن مع رواية كتبتها زوجة رشدي الإنجليزية ماريان فيغير وفيه تسيْ الى العالم المسيحي .. وقبل ذلك كان فيلم ((الإغواء الأخير للمسيح)) وفيه إساءة للسيد المسيح ومريم العذراء "ع" وهو من إخراج المخرج الأميركي ((مارتن سكورسيس)) ..
فلا حد لهؤلاء المسيئين المجرمين إلا القتل وهو من التكاليف الشرعية والحدود الثابتة وليس من الأحكام السلطانية والأوامر الولائية .. لأنه لا يحتاج في تنفيذه الى أن يرفع الى الحاكم الشرعي بل كما جاء في الحديث ((يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع الى الإمام )) 8.
وتواصلت الإسائات بصورة مستمرة ووصل الدور الى بابا الفاتيكان الحالي ((بنديكت)) الذي كنا نتوقع منه التقل في التصريحات ..
وإذا بتصريحاته تسئ للرسالة الإسلامية ورسول الإنسانية .. خلال نقله قولا على لسان إمبراطور بيزنطي في القرن الرابع عشر هو مانويل الثاني ((أن محمدا جلب أشياء شريرة لا إنسانية مثل أمره بنشر الدين الذي يدعوا له بالسيف وأن ذلك عمل غير منطقي وعمل غير عقلاني يعتبر ضد طبيعة الخالق )) .. ليوافق بنديكت هذا النص الكاذب ويزيد عله ويسجل موقفا سلبيا جدا من الجهاد الإسلامي المقدس .. ويعتبر الرسالة الإسلامية رسالة حرب وهو بذلك يجانب الحقيقة بشكل كبير ويظهر عدم إطلاعه الكامل والجيد على تأريخ الإسلام ورؤيته السماوية للكون والإنسان والحيان ـ لو أحسنا به الظن وإلا فهو مغرض ـ فالإسلام دين السلام والتسامح والمحبة والأخوة الى آخر مصفوفة القيم التي حفلت بها المصادر الإسلامية ..

لكني أعتقد أن البابا أسقط في شباك المؤامرة السياسية المعادية للعالم الإسلامي .. ولا ينفع حينها الندم .. وإن تدارك ذلك وإعتذر أمام ردود الفعل الواسعة من علماء الإسلام والمسلمين في العالم .. فقد سقطت صورته من أعينهم .. حيث أعتبرت تصريحاته مساهمة في تأجيج الصراع بين الأديان .. في الوقت الذي كان ينتظر منه ومن قادة الأديان السماوية المساهمة الجادة في ترويج حوار الأديان وحوار الحضارات .. لأن من هدف الأديان أن يعم السلام وتنتصر قيم الخير على قيم الشر .
ويتكرر المسلسل ويتكرر نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد "ص" في الدنيمارك وهي ظاهرة ليست بالجديدة .. بل إنطلقت منذ العصور الوسطى الى الآن .. وفي الرسوم الأخيرة يصور النبي "ص" بصورة نبي عنيف يحمل خنجرا ويحرس إمرأتين منقبتين وأخرى يعتمر عمامة تحمل قنبلة وهنالك تعليقات تحمل سبا مباشرا لنبي الإنسانية وتتهمه بإضطهاد المرأة ..
فيلاحظ في ذلك النساء المنقبات واٌرهاب الحديث أهم صورتين نمطيتين للإسلام في العالم الغربي . وجائت الرسوم بصورة كاريكاتورية مثيرة للسخرية والضحك على الذى الذات المقدسة لرسول الإنسانية .. فهل يمكن الفصل بين هذه الظاهرة والظواهر الأخرى المسيئة للرسول والرسالة ؟ وهل هي مسألة عفية أم مدبرة ؟ ..
نعتقد أن الكيان الصهيوني واللوبيات الصهيونية .. تعمل على توريط الدول الأوربية للدخول في مواجهة مع العالم الإسلامي .. لذلك على تلك الدول أن تعلن مواقفها صريحة من هذه الظواهر السيئة وأن تقوم بالإجراءات اللازمة لإيقافها وإلا فهي تساهم في زيادة الشحناء والحقد والبغضاء والعداء في نفوس المسلمين تجاههم وهذا ليس في مصلحة السلام العالمي الذي ننشده جميعا ونعمل على نشره .


ماذا يعني رسول الإنسانية ؟
هل يعلم هؤلاء الذين يؤذون نبي الرحمة ويسيؤن له ولرسالته الإلهية أنهم يؤذون رسول الله إليهم جميعا .. فهو إستثناء بين الرسل الذين كانوا يبعثون الى قومهم وبلغة قومهم .. فهو المصطفى المختار الذي بعث للعالمين جميعا .. فليس هناك قوم أحق به من قوم ولا أرض أولى به من أرض فهو لكل قوم وعلى كل أرض .. يقول سبحانه ((تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا )) 9 ويقول أيضا ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولن أكثر الناس لايعلمون )) 10 ويقول أيضا ((قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)) 11 .
وقد بلغّ رسالته الإنسانية العالمية بأتم بلاغ فبعث السفراء والكتب الى قيصر الروم وكسرى فارس وعظيم القبط وملك الحبشة والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام وحوزة بن على الحنفي ملك اليمامة وغيرهم من ملوك العرب وشيوخ القبائل والأساقفة والمرازبة والعمّال.
ثم إن محمدا خاتم الرسل والأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات وهي الموحدة لجميع الشرايع السماوية .. ((ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما )) 12 .
ثم إنّ محمدا رسول الإنسانية الذي أعاد للإنسان إعتباره الإنساني ومنحه الحرية وأخضعه لحاكمية الله التي تعني فيما تعني ((أنّ الإنسان حر ولاسيادة لإنسان آخر أو لطبقة أو لأي مجموعة بشرية عليه ، وإنما السيادة لله وحده وبهذا يوضع حد نهائي لكل ألوان التحكم وأشكال الإستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان )) 13 .
ولبى حاجات الإنسان الوجودية والكونية والروحية بحكم إنسانيته أي بحكم فطرته لذلك كان نظام العبادات الذي جاء به محمد "ص" قد عالج حاجة ثابتة في حياة الإنسان لأنه علاج بصيغة ثابتة لذلك يصلي إنسان عصر الكهرباء والفضاء ويصوم ويحج كما كان يصلي ويصوم ويحج في عصر الطاحونة اليدوية .. 14
((فالعبادة ثورة الروح على المادة لا لرفض هذه الأخيرة بل لإخضاعها الى القيم فالسير نحو المطلق كله علم وكله قدرة وكله عدل وكله غنى يعني أن تكون المسيرة الإنسانية كفاحا متواصلا بإستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر ...)) 15 .
فهي إذن جهاد مستمر من أجل الإنسان وكرامته والمثل العليا .. وعلى ذلك جاهد محمد "ص" وتأذى وعانى وقاسى من قومه ومن غيرهم لإنه إنطلق من الله الى الإنسان ولم يعتبر الإنسان مجرد نتيجة حتمية لعوامل مادية كما تعتبره النزعة الإنسانية ..


ثم إنّ تعاليم القرآن الكريم ومسيرة الرسول "ص" تؤكد على الحوار كعمل ضروري ومطلوب مع كل الأطراف الإنسانية .. مع الأخوة في العقيدة الإسلامية ومع أهل الكتاب ومن لا كتاب لهم .. مع الأسود والأبيض .. ومع الجبابرة والمتكبرين .. ومع المستضعفين والمساكين لأن الحوار هو الصورة الحقيقية لعقولنا ولما نفكر فيه سلبيا كان أو إيجابيا .. ..
وصريح القران يقول ((أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )) 16 .
وكذلك ((ولا تجدلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون )) 17 وكذلك ((قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ةلا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون )) 18 .
لذلك لم يتخذ رسول الله "ص" وأمته مواقف عدائية تجاه الرسالات السماوية الأخرى بل هو مبلّغ لرسالات الله جميعا وشهاهد على الرسل وأمته شاهدة على الأمم .. فحقيقة الرسالات الإلهية وجوهرها واحد .. بل كان الرسول "ص" يؤكد على ضرورة إحترام أهل الذمة وعدم التعرض لهم والنيل منهم حيث يقول ((من آذى ذميا فقد آذآني )) !! ويقول ((ألا من ظلم معاهدا أو نقضه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة )) 19 ..
فهل هناك أروع من هذا المثال الإنساني ؟ وهل هناك روح إنسانية بعد هذه الروح التي تظم جميع أبناء آدم بين جوانحها ؟ .
إن محمدا بن عبد الله "ص" نبي الرحمة حتى لهؤلاء الذين يسيئون له بالأمس واليوم وغدا .. ((إنما أرسلناك رحمة للعالمين .. )) .
وهو الذي أرسى دعائم المفاهيم والقيم الإنسانية السامية .. وصاغها في تشريعات وأحكام .. فقد نادى بوحدة المجتمع البشري .. ودعى لتحطيم كل ألوان التفرقة والتمييز والتفضيل على أساس العرق أو النسب أو الوضع الإجتماعي .. ورفع المرأة المؤودة الى مركزها الكريم .. ((وإبن الصحراء التي لم تكن تفكر إلا في همومها الصغيرة وسد جوعتها والتفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشائري .. ظهر ليقودها الى حمل أكبر الهموم ويوحدها في معركة تحرير العالم وإنقاذ المظلومين في شرق الدنيا وغربها من إستبداد كسرى وقيصر .. وإبن ذلك الفراغ الشامل سياسيا وإقتصاديا بكل مايضج به من تناقضات الربا والإحتكار والإستغلال .. ظهر فجأة ليملأ ذلك الفراغ ، ويجعل من ذلك المجمع الفارغ مجتمعا ممتلئا له نظامه في الحكم وشريعته في العلاقات الإجتماعية والإقتصادية ويقضي على الربا والإحتكار والإستغلال ويعيد توزيع الثروة على أساس أن لا تكون دولة بين الأغنياء ويعلن مبادئ التكافل الإجتماعي والضمان الإجتماعي التي لم تناد بها التجربة الإجتماعية البشرية إلا بعد ذلك بمئات السنين )) 20 .

إن محمدا بن عبد الله "ص" هو ((دعوة القول والعمل )) و ((ونصرة المظلوم والدفاع عن حقوق الإنسان)) و ((ومقابلة الإساءة بالإحسان )) و ((والشورى في الأمر )) و ((وأخلاقية القائد المنتصر)) و ((أنيس الفقراء والمستضعفين )) و ((الفتوة)) و ((إنما بعثت معلما)) و ((لا ضرر ولا ضرار)) و ((العفو عند المقدرة )) و ((للحيوان حقه)) و ((إحترام حق الآخرين وإن أساؤوا )) و ((العناية والإهتمام بمشاكل الآخرين )) و ((قضاء دين المحتاج )) و ((الوفاء بالوعد )) و ((الرحمة المهداة )) و ((الطاعة في المعروف )) و ((طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف الناس )) و ((حسن الخلق )) و ((الكسب والنفقة )) و ((الخلق عيال الله )) و و و ...
وفي الختام أدعوا المسلمين في العالم الى الإنتصار لنبيهم العظيم بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتأسي به وبنبذ العنف والتطرف ودعوة العالم الى دين السلام .. كما أدوا الآخر الى دراسة الإسلام بتجرد عن العصبيات والمواقف المسبقة والإسقاطات والملابسات والصراعات السياسية وأن لا يخلط بين الإسلام وأفعال بعض من يدعي الإنتماء للإسلام أو تمثيله لأنّ للإسلام منابعه الأصيلة المعروفة التي يستقى منها .


* مقال نشر في صحيفة بينات طبعة العراق العدد 100 .