محمد حسين فضل الله
إضاءات في بعض جنبات نهضته
السيد محمد الياسري
وهذه الورقة لا تبحث عن ظروف الولادة والنشأة وماتبعهما بل تضيء بعض الجنبات في نهضة فضل الله في أوج مرجعيته وألمع نجوميته .. الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس .. بعلمه وعمله وبفعله الفكري والسياسي والإجتماعي والجهادي وبترفعه عن ردود الفعل الذاتية .
وبذلك مثل مفارقة بين العلماء الناهضين وسجل رقما صعبا في عوالم الإصلاح والتجديد والتغيير والنهضة والتنوير وغير ذلك من مفاهيم الإنبعاث الإسلامي والقيام الشيعي .
مثل مفارقة على مستوى الأداء المرجعي الديني العالي .. والإحتياط في تحمل مسؤولية الأمانة الثقيلة .. ومفارقة على مستوى التفكر العقلاني المتفتح دون تلفيق .. ومفارقة على مستوى القراءة التحليلية للأحداث الجارية في العالم .. فكانت بصيرته لاتخيب .. ومفارقة على مستوى العقل التنظيمي الذي يفوق عقل لينين كما وصفه هيكل .. ولولا ضوابط وقيود الإرث الديني لكان لفضل الله كلام أخر في توجيه العقل .
أولويات فضل الله
وضع محمد حسين فضل الله أولوية كبرى في منطلق نهضته هي تأصيل المفاهيم الإسلامية في المسألة الثقافية التي تنفتح على المفردات السياسية والحركية الروحية والعلمية والإقتصادية وما إلى ذلك .. لأن المشكلة التي تعانيها الصحوة الإسلامية في نظره هي أنها لم تستطع ان تقدم صورة كاملة مترابطة متصلة الخطوط للمشروع الإسلامي الواحد .
كما وضع الوحدة الإسلامية كأولوية أخرى .. ولم يقصد بها وحدة المذاهب والمناهج والأساليب لأنها تحتاج الى وقت أطول .. وإنما أراد بها وحدة القضايا المشتركة بين الإسلاميين الحركيين .. محذرا في ذات الوقت من إلتفاف الحالة المذهبية على الحالة الإسلامية الحركية .
ولم ينسى الأولويات الميدانية للقضايا الإسلامية الساخنة التي تترك تأثيراتها على الواقع الإسلامي سلبا أو إيجابا كالقضية الفلسطينية أم القضايا التي إلتقى عليها المسلمون جميعا والقضية العراقية واللبنانية وسائر قضايا العالم العربي والإسلامي والإنساني .
وفي الدفاع عن أولوياته تصدى فضل الله للتحديات الخارجية والداخلية التي يواجهها المسلمون في عصره معتبرا إياها أكثر خطورة من التحديات التي واجهها المسلمون في عهد الدعوة الأول لأنها تمثل تحديات بحجم العالم .. بحيث يقتحم الإستكبار على المسلمين بيوتهم وغرف نومهم بل مشاعرهم وأحاسيسهم مما يجعل الإنسان ينتصر في جانب ليهزم في جانب آخر .. لذا رأى أن من واجب الإسلاميين أن لا يتحركوا بإتجاه واحد كالسياسي أو العسكري ويغفلوا الجانب الثقافي والتبليغي في خط الدعوة وكذا العمل الإجتماعي .
فضل الله وأخلاقية التعامل مع مشاريع النهضة
صاغ المرجع المفكر فضل الله مشروعا إسلاميا نهضويا له ملامحه الخاصة دون إستنساخ ودون إنفصام قوامه الموروث الإسلامي ورؤى العصر التي لا تصطدم مع الشريعة الإسلامية.
ودخل الحاضر دون أن يسقط فيه أو يحذف ماضيه بل إستحضر الماضي بوعي عند دخوله للحاضر .. وتدرع بثقافة إسلامية أصيلة شاملة وموسوعية .. وقف خلالها يطاول قامات من رسموا مسارات النهوض العربي والإسلامي والبشري .
إلتقى مشروع السيد فضل الله مع مشاريع صاعدة أخرى تقاطع معها ولم يقطعها تكامل معها ولم يقابلها .. واصل بعضها لموضوعيته مع الحفاظ على خصوصيته .. وكان آخرها المشروع الفكري التغييري الذي إنطلق به الشهيد محمد باقر الصدر من العراق والمشروع الثوري التأسيسي الذي الذي أقامه السيد الخميني في إيران .
تكامل فضل الله مع الصدر والخميني في مشروعه .. قرأ تجربتيهما قراءة إستيعاب وإنتاج ليواصل مسيرة المشروع الحضاري الإسلامي واضعا لمساته وبصماته الخاصة .
المرجع المجدد
ولم يعد صعبا تصنيف السيد فضل كمرجع مجدد يعتبر التجديد ضرورة معرفية وشرطا من شروط النهوض .. لكنه حاكم مفردة التجديد قبل ولوج عالمها بإثارة سؤال هل المقصود بالتجديد هو التجديد في الدين أو في الفهم الديني ؟ أو هل هو تجديد الإسلام أو فهم الإسلام ؟ فالأول لا يصح بحال لأن الدين من عند الله والدين عند الله الإسلام وإن كان المقصود هو الثاني فهو المنهج الذي إعتمده في ما فكر وما خطب وما كتب .
من هنا طالب بتجديد لا يكون على حساب الدين وإنما لحسابه .. وطالب بعدم إسقاط القديم بهاجس الجديد .. فتكون عملية إستبدال لواقع وليس تجديدا فيه .. كأن يستبدل بفكر لا علاقة له بالدين أو بالإسلام فيعتبر خروجا عنه وعن مصادره الى دين أخر ومصادر أخرى .
تحديات في الواجهة
واجه فضل الله بمشروعه النهضوي وفكره التجديدي تحديات ومعوقات كادت أت تأتي على مشروعة لولا قدراته الإستثنائية في تجاوز الصعاب .. وهي تحديات واجهت من سبقه من الناهضين لكنها أزدادت معه حدة .. وأبرزها كما سجلها بعض الكتاب الإنحباس المدرسي وتماهي العلماء مع سلطة الدولة وإندكاك العلماء في إرادة العامة .
فقد حاولت بعض أطراف المدرسة التقليدية المنحبسة أن تحاصره وتملي على مدرسته التجديدية قي محاولة لشغله بذاته بدل مشروعه لكنه لم يعبأ ولم يكترث ولم ينجر الى معركة جانبية بل واصل مشروعه بقوة وإصرار .
كما واجه تحدي إستقلاله عن أي سلطة أو جهة في مقابل علماء وجهات متماهية مع سلطات وقوى داخلية وخارجية هنا وهناك .. لكنه بقي بذاته سلطة روحية وفكرية مستطيلة وقائمة وإذا إستطال الشيء قام بنفسه .
وتحدي خطير آخر وهو جبروت العامة الذي تكسرت أمامة الكثير من إرادات المفتين .. فلا يجرأ أحد على إصدار فتوى أو رأي يمكنه مخالفة ماتسطره العامة خوفا من سخطهم عليه أو مقاطعتهم له .. وقد تعاظم جبروت العامة وأضحى آفة أشد بلاءا من السيول والزلازل .
فللعامة مقدسات من صنع مخيلتهم لأ أصل لها في الدين ولا مستند وسكوت العلماء إزاءها زادها رسوخا .
وقد دفع السيد محسن الأمين ضريبة إجهاره بالحق في الأربعينات .. كما واجه السيد فضل الله حملة أوسع على هذا المنوال لأنه تمتع بجرأة الإصحار برأيه وموقفه الشرعي .
وبإنتصاره في مواجهة هذه التحديات وغيرها إستطاع أن يسجل حضور منهجه في تجديد الفهم الديني وإثبات فاعلية القيم الإسلامية التي تصنع الإنسان الصالح وتنتشله من التخلف والإنحطاط .. كما إستطاع أن ينتصر للإبداع من البدعة .
ستضاء الكثير من جنبات نهضة فضل الله بعد رحيله المحزن لتنير درب السائرين .