الخطيب العالم الجليل مثال الورع والتقوى
من أساطين المنبر الحسيني ، وجهابذة الخطباء الكبار السيد كاظم بن السيد علي بن السيد حمود بن السيد نوح بن السيد ناصر بن شلال جد السادة " أخوة سمية " آل ياسر .. الحسيني الياسري نسبا الخضري موطنا الخطيب مهنة وعملاً .
لم أدركه ، ولم اعاصره ، ولم استمع إلى مجاله وتوجيهاته ولا حتى عن طريق التسجيل ، حيث ندرة اجهزة التسجيل بذلك الوقت ان لم يكن انعدامها ، وعدم اهتمام ذوي الشأن بالاحتفاظ بهذه المقالع الثرة ، والاعتناء بهذا التراث العظيم .
فبإمكان الباحث أو الدارس في المجالات الأخرى ان يجد المزيد من الوثائق سواء منها المقروءة أو المسموعة أو حتى المرئية القديمة كالأشرطة المسجلة والمتلفزة وكالمجلات والدوريات المصورة التي ترسم صوراً واضحة عن شخصيات ونماذج قديمة ربما لا يشكل بعضها شيئاً تجاه حملة الفكر ودعاة المبدأ ، كالتسجيلات والوثائق القديمة لبعض أبطال الرياضة والملاكمة ولاعبي كرة القدم والمطربين والممثلين وغيرهم ، ومع كامل الاحترام لهذه الأنشطة والممارسات الاجتماعية ، إلا أننا نلقي باللائمة على من لم يلتفت عبر العصور المختلفة إلى الإحتفاظ بثروات هائلة على صعيد أساطين الفقهاء في بحوثهم العلمية وجهابذة العلماء في مقرراتهم ومحاضراتهم ، وأساتذة الخطباء في مجالسهم وتوجيهاتهم ، وعمالقة الأدباء في أشعارهم وانتاجاتهم الأدبية .
ولا يخفى ما بذلك من سلبية وتحجيم لعطاء هؤلاء العمالقة واقتصاره على مجتمعهم وتقييده بحدود العصر الذي يعيشون فيه وبذلك حرمان الأجيال المتلاحقة من الاستفادة من هذه الخبرات ، والتزود من هذه المنابع الغنية والطاقات العالية .
فلو استقرأنا كل الأراشيف في حوزاتنا ، والخزانات في مكتباتنا لما وجدنا شريطاً سينسمائياً أو تسجيلاً صوتياً واحداً لاكبار العلماء وأعاظم الخطباء حتى المتأخرين الذين عاصرناهم في زمن وفرة الاجهزة الكترونية بكل أشكالها فمن المستحيل ان نجد شريطاً مسجلاً لبحث من بحوث المرجع الأكبر السيد أبو الحسن الأصفهاني ، أو المرجع الراحل السيد محسن الحكيم بل وحتى المرجع الشهيد الصدر ، ثم من المتعذر والمستحيل أيضاً أن تجد تسجيلاً صوتياً أو مرئياً لسيد الخطباء السيد صالح الحلي ، أو لشيخ الخطباء الشيخ محمد علي اليعقوبي أو غيرهما من الجيل الذي تقدمناه .
ومما يذكر في هذا الصدد ما حرره السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب الياسري في مذكراته عن أستاذه الأكبر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وما كتبه لسيادة الدكتور الأستاذ حسن علي عباس لرفده وتزويده بمعلوماته وذكرياته عن الإمام كاشف الغطاء باعتباره تلميذه المبرز ليستعين بها في إعداد رسالة الدكتوراه التي خصصتها في الإمام كاشف الغطاء ، وقد راسل الأستاذ حسن المرحوم السيد بهذا الخصوص وأطلعني السيد في حينها على الرسالة وبعض إجاباتها ثم نشرت بعد وفاته في مجلة الموسم .
فمن جملة اللقطات التي ألمح إليها سيدنا الفقيد هي الخطبة النارية الغراء التي خطبها الإمام كاشف الغطاء في القدس الشريف والتي تعتبر من أهم الوثائق التي تدل على وقوف علماء الشيعة في خندق واحد مع أشقائهم للدفاع عن حقوقهم المغتصبة وأراضيهم السلبية في فلسطين ، وذكر السيد الفقيد عن العلامة الشيخ قاسم محي الدين قوله :
لما دعي الشيخ للمشاركة في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس ، عارض ذلك كثير من العلماء وأهل الحل والعقد من زعماء الشيعة لأن الشيخ هو الوحيد من علماء الأمامية الذي يحضر المؤتمر في مقابل المئات من علماء المذاهب الأخرى من مختلف الأقطار ، ولعله لا يستطيع أن يقوم بما ينبغي ، وفي فشله فشل الطائفة بأسرها ، ولكن الشيخ أصر على السفر وحضور المؤتمر ، وارتجل تلك الخطبة الغراء حتى إن من كان دورهم بعده امتنعوا عن التقدم لمنصه الخطابة خشية الفشل لأن الشيخ في خطبه بذّ من تقدم قبله وخاف الإنكسار من تأخر عنه .
وكان من المقرر أن يؤم المسلمين السيد أمين الحسيني مفتي فلسطين يومئذ ، ولكن السيد الأمين أبي أن يتقدم على الشيخ في الصلاة ، فقدمه وصلى خلفه ما يناهز الخمسين ألف من علماء المذاهب الإسلامية الأخرى وغيرهم من سائر المسلمين .
ويتحدث السيد بأسف بالغ عن عدم وجود هذه الخطبة حتى في مكتبة الشيخ نفسه في النجف الأشرف برغم أنها طبعت في كراس وقد بذل السيد رحمه الله جهوداً في العثور عليها في المكتبة الظاهرية بدمشق في الملفات الخاصة بالشؤون الفلسطينية فلم يظفر بشيء ، وبحث عنها في المجمع العلمي وغيره من المضان الأخرى فلم يفلح في العثور عليها ، وكذلك يتحدث السيد عن خطبة أخرى أرتجلها الشيخ في مسجد الكوفة استمرت عدة ساعات ، وخطب مماثلة في النجف والبصرة والناصرية والحلة ، ثم يبدي أسفه لعدم وجود الاهتمام بتسجيل هذه الخطب بأجهزة التسجيل المتوفرة يومذاك .
وأذكر أنني في نهاية الستينات وفي بداية مجيء العفالقة إلى الحكم حضرت خطبة هام ارتجلها العلامة الشهيد السيد مهدي الحكيم في الصحن الحيدري الشريف ، وكان غاصاً بالأمواج المتلاطمة من البشر ، وقد هز السيد الحكيم بذلك الخطاب الثوري كيان السلطة الحاكمة مطالباً أياها بحقوق الشعب المشروعة وحرية معتقداته ، وحماية العتبات المقدسة ، والكف عن ملاحقة الناس ، وممارسة الضغوط عليهم وخاصة في شعائرهم وقد بادرت يومئذ لتسجيل تلك الخطبة التاريخية على شريط كاسيت بجهاز تسجيل أقتنيته من الكويت عندما قرأت فيها بنفس العام ، وقد استعار مني ذلك الشريط المسجل سماحة الشيخ مهدي العطار حفظه الله ، وكان أستاذي في درس الفقه الإسلامي بكتاب شرائع الإسلام في مكتبة العلمين بمسجد الشيخ الطوسي ، ولا أدري أين مصير الشريط اليوم ؟.
ولو كان محفوظاً لكان من أهم الوثائق التي تتعلق بسيرة السيد الشهيد الحكيم وتاريخ جهاده ومواقفه الجريئة ، وأوليات الحركة الإسلامية في العراق .
وفي عقيدتي أن عدم وجود هذا الجناح المهم في التوثيق وحفظ التراث لاعاظم الشخصيات يعود لعدة عوامل :
الأول : يتعلق بالظروف السياسية الضاغطة التي تتعامل معنا تاريخياً بمنطق القمع والإرهاب .
الثاني : إنعدام المؤسسات الإستراتيجية التي تقوم بدور الأعلام وحفظ التراث من الضياع عبر القنوات المختلفة في دوائر المرجعية العليا .
الثالث : عدم وجود الانفتاح بين أجهزة الدولة الإعلامية وطاقاتها الكبيرة في الإذاعة والتلفزيون ، وبين الطاقات الضخمة لرجالاتنا وشخصياتنا العملاقة ، فترى التحقيقات والمقابلات والحوارات قائمة على قدم وساق مع الفنانين والمطربين والرياضيين نساءاً ورجالاً ولحد الأشباع والتخمة ، بينما لا تجد لقاءاً أو حواراً أو محاضرة بشكل منتظم لعالم من علمائنا أو خطيب من خطبائنا إلا على سبيل الشذوذ والاستثناء .
ولعل من أبلغ الشواهد على ذلك ما ذكره الأستاذ علي أحمد البغلي وزير النفط الكويتي السابق وعضو مجلس الأمة في مقال له نشرته الصحافة الكويتية بتاريخ 11 / 9 / 1992 تحت عنوان (عبقريات إعلامية) على أثر وفاة الزعيم الإسلامي الكبير السيد الخوئي طاب ثراه ، وأنهم أتصلوا بالإذاعة وبوزارة الإعلام لإذاعة النبأ تأسياً بالإذاعات الأخرى ، فكان الرد : وهل أن الخوئي كويتي حتى نعلن نبأ وفاته ؟! فكانت الإجابة المسددة إذاً هل أن عبد الحليم حافظ كويتي حتى قطعتم البرامج المعتادة وتوقفتم عن البث وأعلنتم نبأ وفاته !!؟؟(1).
الرابع : هناك عامل آخر وهو أن الكثير من شخصياتنا الدينية بعيدون كل البعد عن الأضواء والشهرة والتهالك على زخارف الدنيا فانهم يعيشون حياة بسيطة متواضعة برغم الملكات العالية ، وأما شريحة الخطباء فإلى وقت متأخر كنا نرى كيف أنهم يغضبون أشد الغضب إذا رأوا مسجلاً بيد أحد المستمعين ويمنعونه علناً عن التسجيل بمرأى من الناس ومسمع ، وربما تتدخل عوامل أخرى في هذا المنع غير الذي ذكرنا من رقابة التسجيل واحصاء الهفوات وقلة البضاعة وتكرار المحاضرات ، إلى أن تغيرت الدنيا وانتشرت التقنيات الحديثة ، ودخلت التكنولوجيا في كل مجال ، أصبحت الأجنحة المستقلة في كل مؤسساتنا للتسجيلات بمختلف أشكالها ، وبإدارتها الكفؤة ، وأجهزتها العملاقة وانتشارها المنتظم مسايراً للحياة الحديثة المتطورة المعاصرة .
والخلاصة : إن سيدنا المترجم لا نملك لمحاضراته تسجيلاً يعطينا فكرة متكاملة عن قابلياته العلمية أو كفاءته الخطابية ، غير أني سمعت الكثير عن شخصية السيد كاظم الحسيني منذ عهد الطفولة المبكرة ، فقد كان أسمه يتردد في أوساط بيئتنا مقروناً بالهيبة والإجلال والتقدير ، وكان ذكره لا يبرح ألسنة الجيل الذي سبقنا من أهلنا وشخصياتنا في مدينة الخضر ، وحتى أني أدركت أحد الأخيار من الشيبة وهو الشيخ علي صفر كان يجهر بصوت عال طالباً من الجميع قراءة سورة الفاتحة على روح السيد كاظم كلما عقد مجلس للحسين في أي مكان وزمان اعتزازاً وتقديراً ووفاءاً .
وأما تلميذه البار وقرة عينه وابن عمه المرحوم الفقيد السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب الياسري فلا تكاد تخلو أحاديثه ومجالسه وشواهده من ذكر (السيد) حتى أصبح مصطلحاً إذا أطلق ولم يقيد فالمقصود به السيد كاظم كما أعتاد الفقهاء أن يطلقوا (الشيخ) على الشيخ الطوسي ، و(السيد) على السيد المرتضى .
أجل كان يثني عليه غاية الثناء ، ويطري شخصيته بإكبار واعتزاز ويستشهد بأحاديثه ومشاهداته ووقائعه بتأثر بالغ نظراً للملازمة الطويلة والأنصهار في شخصيته ، وسمعته يقول :
حصل خلاف ـ ذات يوم ـ في مسألة لغوية بين المرحوم الشيخ أسد حيدر وجماعة من العلماء واحتدم النقاش ما بينهم فانبرى الشيخ أسد قائلاً سمعت ذلك من خالي السيد كاظم وهو لا يخطأ في ضبط الكلمات يقول ذلك بثقة وبصيرة وتحدي .
لقد كان السيد المترجم قوي الحجة واسع المعرفة دقيق الملاحظة كما كان من ناحية أخرى جسوراً جريئاً مهيب الطلعة عزيز النفس موفور الكرامة ، ومن شواهد هذا الباب ما ذكره السيد عبد الزهراء رحمه الله أنه قصد عائداً أحد المرضى من معارفه ، فلم يقم المريض احتفاءاً واستقبالاً له ، واكتفى بالسلام عليه وهو على فراشه ، فالتمس له السيد أسباب العذر باعتباره مريضاً لا طاقة له على القيام والمجاملة وبينما السيد في زيارته وحديثه معه إذ دخل عليه أحد موظفي الدولة ، فانتفض المريض من فراشه مرحبا ومستقبلاً ، فما كان من السيد إلا أن وقف على قدميه وخاطبه بلهجة غاضبة قائلاً تعساً لأمك عذرتك لمرضك ، أما أن تقوم لهذا فهل هو أشرف مني ؟! وتركه وخرج .
وكان قوي الحافظة متفتح الذهن ، متوقد الذكاء ، شديد التتبع ولما كف بصره في أيام الأخيرة كان يستعين في مطالعاته وقراآته بمجموعة من الشباب المثقف وخصوصاً الأستاذ دايم الثويني الذي يجيد أكثر من لغة كالإنكليزية والفرنسية بالإضافة إلى لغته العربية ، فإذا ما انتهى وقت المطالعة وحان الموعد الثاني لها يتذكر بكل نباهة ويقظة موضوع المطالعة ، ورقم الصفحة التي انتهوا عندها بل وحتى السطر الذي توقفوا عنده في قرائتهم السابقة .
حدثني السيد جعفر الحسيني أن أخي السيد جبار سأل المرحوم والده بحضوره : لو أردنا أن نقسم المقدرة الخطابية والإحاطة بفنون المنبر على مراحل ودرجات فأين نضع السيد كاظم من اليعقوبي المعروف بشيخ الخطباء بذلك الوقت ، فأجاب السيد إن السيد كاظم أرفع درجة وأعلى مكانة من اليعقوبي لولا أن الأخير أنطلق من النجف واشتهر باشتهار أسمها ، وبقي السيد محجماً في الخضر بعيداً عن ، الأضواء والشهرة .
دراسته:
تتلمذ على يديه ثلة من أعاظم الخطباء وفي مقدمتهم سيدنا الفقيد السعيد السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب ، والخطيب البارع السيد طاهر السيد حسن ملحم الياسري .
وحدثني والدي أنه كان يصطحب السيد المترجم في مجالسه السنوية بمناسبة شهر محرم إلى الناصرية ويقيم معه ، ويقرأ مقدمة أمامه وكان كثير التحدث عن مكارم أخلاقه ، وأنه كان يؤثره على نفسه لاسيما وأن الزمن كان زمن قحط وجوع ، وما ذلك إلا لسمو نفسه وطيب معدنه وتفقده لأرحامه ، حيث تربطنا به قرابة مباشرة عن طريق أمهات آبائنا فهو وأبي ولدا خالة من أختين شقيقتين خالصتين ومن نفس هذا المصدر تنبثق قرابتنا مع السيد عبد الزهراء والسيد طاهر والشيخ طالب حيدر والشيخ أسد حيدر ، وكذلك الحاج مدلول والحاج فاخر وليد الطائي .
وذكره الأخ الفاضل السيد محمد طاهر ملحم في الملف الخاص عن السيرة الذاتية للسيد عبد الزهراء الذي نشرته مجلة الموسم في عددها العشرين لسنة 1994 ، وأكتفى بذكر نسبه وما ترجمه له السيد عبد الزهراء في مصادره ، والشيخ الأميني في معجمه ، فأما السيد في المصادر فعرفه بما يلي :
هو أُستاذي وابن عم والدي ، ولد في سنة 1306 هـ في ضاحية من ضواحي الناصرية حيث كان أبوه مزارعاً هناك ، ونشأ نشأة تلوح منها علائم النبوغ ، وأمارات العبقرية ، وتفرس فيه ذلك صهره العلامة الشيخ محمد حيدر رحمه الله فحثه على طلب العلم ، فهاجر إلى النجف الأشرف سنة 1320 هـ وجّد في الطلب ، وثابر على التحصيل ، وامتهن الخطابة ، وبرع فيها حتى صار موضع إعجاب المستمعين على اختلاف أذواقهم لغزارة علمه وفرة اطلاعه ، ومعرفة بحرمة المنبر ، وتحسسه بأدواء المجتمع ، ومشاكل الناس ، ومهارته في وصف الأدوية الناجعة ، ووضع الحلول النافعة ، بالإضافة إلى عذوبة منطقه ، وجهورية صوته ، ورخامته ، ووقاره المتناهي ، وأتزانه المنقطع النظير ، حتى قال في حقه الإمام الفقيد كاشف الغطاء ، وكانت بينهما مودة أكيدة :
(قلما رأيت مثله في صلابة إيمانه ، وتأثير موعظته) .
وفاته :
توفي رحمه الله في الخامس عشر من شعبان سنة 1370 هـ وكان من يومه مشهوداً ودفن في النجف الأشرف(2).
وكذلك ذكره سيدنا الفقيد في تقديمه لكتاب من لا يحضره الخطيب الجزء الثاني فقال :
ولا يمكنني ـ عرفاناً للجميل ـ الا أن أذكر السيد كاظم الحسيني الخطيب رحمه الله ذلك الرجل الذي صحبته أكثر من عشر سنوات ، واستمعت إليه أكثر من عشرين سنة ومازلت أتذوق قرائته وكان يعرف للمنبر قدسيته وللمجالس حرمتها ، وما رقى المنبر جنباً طول حياته ، وما رقاه بلا وضوء قرابة الأربعين عاماً كما سمعته يذكر ذلك لبعض تلامذته ، ولذا صار موضع إعجاب السامعين لغزارة علمه ... الخ .
ولو أردت أن أذكر محاسنه وعبادته وأذكاره لطال بين المسير ولكن أسجل واقعتين شاهدتهما بنفسي والله شاهد على ما أقول :
رأيته في ليلة عاشوراء جاء إلى أحد المجالس فلم يتخط عتبة الباب حتى أجهش الناس بالبكاء ، وأرتج المجلس بالنحيب فوصل المنبر وقد علت أصواتهم على صوته ، ولم يتمكن من اسماعهم لأنه لم تكن مكبرات للصوت يومئذ ولم يقرأ إلا بيت واحد باللغة الدارجة ، ونزل عن المنبر واستمر الناس بالبكاء مدة من الزمن ليست بالقصيرة .
ثم رأيته في أحد مجالسه في الناصرية ولا أنسى أنها كانت الليلة الحادي عشرة من المحرم ، وهكذا ماج المجلس وهاج حتى رأيت رجلاً أغمي عليه من البكاء ، فحملوه إلى خارج المجلس وما أدري ما حدث له بعد ذلك(3) .
وقال عنه الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني في معجم رجال الفكر والأدب : خطيب عالم جليل متكلّم فاضل ، مثال الورع والتقوى والصلاح ، كثير الدعاء والصلاة .
تتلمذ على علماء عصره ، وكان شديد الاتصال بالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، ووكيله في الخضر ، وكانت له معه مراسلات وقد احتفظ بكثير منها ابن عمه السيد عبد الزهراء الخطيب ، وعاد إلى بلدته (الخضر) وواصل التوجيه وكفّ بصره في السنين الأخيرة ومات سنة 1370 هـ وله : تبويب كشكول البهائي ومجاميع في مختلف المواضيع 1 ـ 6(4) .
وتحدث المرجاني عند عرض ترجمته فقال :
أما أسلوبه الخطابي فو أسلوب منقطع النظير ، يثير إعجاب المستمع ويجوز استحسانه ، ويخلب لبه من أي الطبقات ، هو بلاغة في القول ، وفصاحة في اللهجة ، وحفظ للنصوص ، وشرح للمتون ، وضبط للأسماء ، وبيان للغريب ، وعناية بالوعظ والإرشاد ، فإذا أحس من المستمع كلالا ، جاء بالنادرة اللطيفة ، والنكتة المضحكة ، مما يدخل في تلك الباب ويندرج تحتها ، حتى يعيد للمستمع نشاطه ، أضف إلى ذلك صوته الرقيق فالمترجم كان علماً من أعلام الخطابة ، وبطلاً من أبطال المنابر ، ورجلاً من رجال الإصلاح ، فكان كثيراً ما يرقى الأعواد في بلاده وناصرية المنتفك ، والبصرة والمعقل وسوق الشيوخ وبعض المدن الإسلامية ، وكان كثير الإطلاع والمطالعة حتى أثرت كثرة المطالعة في بصره فأخذ يتنازل تدريجياً حتى كفّ بصره تماماً في سنة 1366 هـ ، ولم يثن ذهاب بصره عن عزمه ولم يقصر من خطوه ، وكان على غاية من الذكاء وسرعة الحفظ(5) .
وإذا أردنا أن نلخص حياته في سطور فنقول أنه :
ولد في قرية من ضواحي الناصرية تدعى (أبو غريب) حيث كانت أسرته مقيمة هناك لظروف عملها ، وقد توفي أبوه بعد ولادته بستة أشهر فرجع أهله إلى موطنهم الأصلي في مدينة الخضر فنشأ في أحضان أخواله آل حيدر وأشرف على تربيته المرحوم الشيخ محمد حيدر والد الشيخ طالب والشيخ أسد حيدر .
تلقى تحصيله العلمي في الفقه والأصول والنحو والمنطق والعلوم الأخرى في النجف الأشرف ، وبعد إكمال الدراسة عاد إلى بلاده وأقام فيها خطيباً مفوهاً مصلحاً . مدفنه :
في الخامس عشر من شهر شعبان من سنة 1730 هجرية وفد عل ربه ، وحمل إلى النجف الأشرف ، وأوى إلى مثواه الأخير في مقبرة وادي السلام ، وقد زرت قبره فيما بعد وقرأت اللوحة التي نحتت بإسمه وتاريخ وفاته ، عندما دفنت والدي إلى جانب قبره سنة 1970م .
وبعد وفاته بثلاثة أشهر توفي ولده السيد علي الذي لم يعقب ولداً ذكراً غيره ووري الثرى بقربه أيضاً وأرخ وفاته الأديب المعروف الشيخ علي البازي رحمه الله :
لم أدركه ، ولم اعاصره ، ولم استمع إلى مجاله وتوجيهاته ولا حتى عن طريق التسجيل ، حيث ندرة اجهزة التسجيل بذلك الوقت ان لم يكن انعدامها ، وعدم اهتمام ذوي الشأن بالاحتفاظ بهذه المقالع الثرة ، والاعتناء بهذا التراث العظيم .
فبإمكان الباحث أو الدارس في المجالات الأخرى ان يجد المزيد من الوثائق سواء منها المقروءة أو المسموعة أو حتى المرئية القديمة كالأشرطة المسجلة والمتلفزة وكالمجلات والدوريات المصورة التي ترسم صوراً واضحة عن شخصيات ونماذج قديمة ربما لا يشكل بعضها شيئاً تجاه حملة الفكر ودعاة المبدأ ، كالتسجيلات والوثائق القديمة لبعض أبطال الرياضة والملاكمة ولاعبي كرة القدم والمطربين والممثلين وغيرهم ، ومع كامل الاحترام لهذه الأنشطة والممارسات الاجتماعية ، إلا أننا نلقي باللائمة على من لم يلتفت عبر العصور المختلفة إلى الإحتفاظ بثروات هائلة على صعيد أساطين الفقهاء في بحوثهم العلمية وجهابذة العلماء في مقرراتهم ومحاضراتهم ، وأساتذة الخطباء في مجالسهم وتوجيهاتهم ، وعمالقة الأدباء في أشعارهم وانتاجاتهم الأدبية .
ولا يخفى ما بذلك من سلبية وتحجيم لعطاء هؤلاء العمالقة واقتصاره على مجتمعهم وتقييده بحدود العصر الذي يعيشون فيه وبذلك حرمان الأجيال المتلاحقة من الاستفادة من هذه الخبرات ، والتزود من هذه المنابع الغنية والطاقات العالية .
فلو استقرأنا كل الأراشيف في حوزاتنا ، والخزانات في مكتباتنا لما وجدنا شريطاً سينسمائياً أو تسجيلاً صوتياً واحداً لاكبار العلماء وأعاظم الخطباء حتى المتأخرين الذين عاصرناهم في زمن وفرة الاجهزة الكترونية بكل أشكالها فمن المستحيل ان نجد شريطاً مسجلاً لبحث من بحوث المرجع الأكبر السيد أبو الحسن الأصفهاني ، أو المرجع الراحل السيد محسن الحكيم بل وحتى المرجع الشهيد الصدر ، ثم من المتعذر والمستحيل أيضاً أن تجد تسجيلاً صوتياً أو مرئياً لسيد الخطباء السيد صالح الحلي ، أو لشيخ الخطباء الشيخ محمد علي اليعقوبي أو غيرهما من الجيل الذي تقدمناه .
ومما يذكر في هذا الصدد ما حرره السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب الياسري في مذكراته عن أستاذه الأكبر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وما كتبه لسيادة الدكتور الأستاذ حسن علي عباس لرفده وتزويده بمعلوماته وذكرياته عن الإمام كاشف الغطاء باعتباره تلميذه المبرز ليستعين بها في إعداد رسالة الدكتوراه التي خصصتها في الإمام كاشف الغطاء ، وقد راسل الأستاذ حسن المرحوم السيد بهذا الخصوص وأطلعني السيد في حينها على الرسالة وبعض إجاباتها ثم نشرت بعد وفاته في مجلة الموسم .
فمن جملة اللقطات التي ألمح إليها سيدنا الفقيد هي الخطبة النارية الغراء التي خطبها الإمام كاشف الغطاء في القدس الشريف والتي تعتبر من أهم الوثائق التي تدل على وقوف علماء الشيعة في خندق واحد مع أشقائهم للدفاع عن حقوقهم المغتصبة وأراضيهم السلبية في فلسطين ، وذكر السيد الفقيد عن العلامة الشيخ قاسم محي الدين قوله :
لما دعي الشيخ للمشاركة في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس ، عارض ذلك كثير من العلماء وأهل الحل والعقد من زعماء الشيعة لأن الشيخ هو الوحيد من علماء الأمامية الذي يحضر المؤتمر في مقابل المئات من علماء المذاهب الأخرى من مختلف الأقطار ، ولعله لا يستطيع أن يقوم بما ينبغي ، وفي فشله فشل الطائفة بأسرها ، ولكن الشيخ أصر على السفر وحضور المؤتمر ، وارتجل تلك الخطبة الغراء حتى إن من كان دورهم بعده امتنعوا عن التقدم لمنصه الخطابة خشية الفشل لأن الشيخ في خطبه بذّ من تقدم قبله وخاف الإنكسار من تأخر عنه .
وكان من المقرر أن يؤم المسلمين السيد أمين الحسيني مفتي فلسطين يومئذ ، ولكن السيد الأمين أبي أن يتقدم على الشيخ في الصلاة ، فقدمه وصلى خلفه ما يناهز الخمسين ألف من علماء المذاهب الإسلامية الأخرى وغيرهم من سائر المسلمين .
ويتحدث السيد بأسف بالغ عن عدم وجود هذه الخطبة حتى في مكتبة الشيخ نفسه في النجف الأشرف برغم أنها طبعت في كراس وقد بذل السيد رحمه الله جهوداً في العثور عليها في المكتبة الظاهرية بدمشق في الملفات الخاصة بالشؤون الفلسطينية فلم يظفر بشيء ، وبحث عنها في المجمع العلمي وغيره من المضان الأخرى فلم يفلح في العثور عليها ، وكذلك يتحدث السيد عن خطبة أخرى أرتجلها الشيخ في مسجد الكوفة استمرت عدة ساعات ، وخطب مماثلة في النجف والبصرة والناصرية والحلة ، ثم يبدي أسفه لعدم وجود الاهتمام بتسجيل هذه الخطب بأجهزة التسجيل المتوفرة يومذاك .
وأذكر أنني في نهاية الستينات وفي بداية مجيء العفالقة إلى الحكم حضرت خطبة هام ارتجلها العلامة الشهيد السيد مهدي الحكيم في الصحن الحيدري الشريف ، وكان غاصاً بالأمواج المتلاطمة من البشر ، وقد هز السيد الحكيم بذلك الخطاب الثوري كيان السلطة الحاكمة مطالباً أياها بحقوق الشعب المشروعة وحرية معتقداته ، وحماية العتبات المقدسة ، والكف عن ملاحقة الناس ، وممارسة الضغوط عليهم وخاصة في شعائرهم وقد بادرت يومئذ لتسجيل تلك الخطبة التاريخية على شريط كاسيت بجهاز تسجيل أقتنيته من الكويت عندما قرأت فيها بنفس العام ، وقد استعار مني ذلك الشريط المسجل سماحة الشيخ مهدي العطار حفظه الله ، وكان أستاذي في درس الفقه الإسلامي بكتاب شرائع الإسلام في مكتبة العلمين بمسجد الشيخ الطوسي ، ولا أدري أين مصير الشريط اليوم ؟.
ولو كان محفوظاً لكان من أهم الوثائق التي تتعلق بسيرة السيد الشهيد الحكيم وتاريخ جهاده ومواقفه الجريئة ، وأوليات الحركة الإسلامية في العراق .
وفي عقيدتي أن عدم وجود هذا الجناح المهم في التوثيق وحفظ التراث لاعاظم الشخصيات يعود لعدة عوامل :
الأول : يتعلق بالظروف السياسية الضاغطة التي تتعامل معنا تاريخياً بمنطق القمع والإرهاب .
الثاني : إنعدام المؤسسات الإستراتيجية التي تقوم بدور الأعلام وحفظ التراث من الضياع عبر القنوات المختلفة في دوائر المرجعية العليا .
الثالث : عدم وجود الانفتاح بين أجهزة الدولة الإعلامية وطاقاتها الكبيرة في الإذاعة والتلفزيون ، وبين الطاقات الضخمة لرجالاتنا وشخصياتنا العملاقة ، فترى التحقيقات والمقابلات والحوارات قائمة على قدم وساق مع الفنانين والمطربين والرياضيين نساءاً ورجالاً ولحد الأشباع والتخمة ، بينما لا تجد لقاءاً أو حواراً أو محاضرة بشكل منتظم لعالم من علمائنا أو خطيب من خطبائنا إلا على سبيل الشذوذ والاستثناء .
ولعل من أبلغ الشواهد على ذلك ما ذكره الأستاذ علي أحمد البغلي وزير النفط الكويتي السابق وعضو مجلس الأمة في مقال له نشرته الصحافة الكويتية بتاريخ 11 / 9 / 1992 تحت عنوان (عبقريات إعلامية) على أثر وفاة الزعيم الإسلامي الكبير السيد الخوئي طاب ثراه ، وأنهم أتصلوا بالإذاعة وبوزارة الإعلام لإذاعة النبأ تأسياً بالإذاعات الأخرى ، فكان الرد : وهل أن الخوئي كويتي حتى نعلن نبأ وفاته ؟! فكانت الإجابة المسددة إذاً هل أن عبد الحليم حافظ كويتي حتى قطعتم البرامج المعتادة وتوقفتم عن البث وأعلنتم نبأ وفاته !!؟؟(1).
الرابع : هناك عامل آخر وهو أن الكثير من شخصياتنا الدينية بعيدون كل البعد عن الأضواء والشهرة والتهالك على زخارف الدنيا فانهم يعيشون حياة بسيطة متواضعة برغم الملكات العالية ، وأما شريحة الخطباء فإلى وقت متأخر كنا نرى كيف أنهم يغضبون أشد الغضب إذا رأوا مسجلاً بيد أحد المستمعين ويمنعونه علناً عن التسجيل بمرأى من الناس ومسمع ، وربما تتدخل عوامل أخرى في هذا المنع غير الذي ذكرنا من رقابة التسجيل واحصاء الهفوات وقلة البضاعة وتكرار المحاضرات ، إلى أن تغيرت الدنيا وانتشرت التقنيات الحديثة ، ودخلت التكنولوجيا في كل مجال ، أصبحت الأجنحة المستقلة في كل مؤسساتنا للتسجيلات بمختلف أشكالها ، وبإدارتها الكفؤة ، وأجهزتها العملاقة وانتشارها المنتظم مسايراً للحياة الحديثة المتطورة المعاصرة .
والخلاصة : إن سيدنا المترجم لا نملك لمحاضراته تسجيلاً يعطينا فكرة متكاملة عن قابلياته العلمية أو كفاءته الخطابية ، غير أني سمعت الكثير عن شخصية السيد كاظم الحسيني منذ عهد الطفولة المبكرة ، فقد كان أسمه يتردد في أوساط بيئتنا مقروناً بالهيبة والإجلال والتقدير ، وكان ذكره لا يبرح ألسنة الجيل الذي سبقنا من أهلنا وشخصياتنا في مدينة الخضر ، وحتى أني أدركت أحد الأخيار من الشيبة وهو الشيخ علي صفر كان يجهر بصوت عال طالباً من الجميع قراءة سورة الفاتحة على روح السيد كاظم كلما عقد مجلس للحسين في أي مكان وزمان اعتزازاً وتقديراً ووفاءاً .
وأما تلميذه البار وقرة عينه وابن عمه المرحوم الفقيد السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب الياسري فلا تكاد تخلو أحاديثه ومجالسه وشواهده من ذكر (السيد) حتى أصبح مصطلحاً إذا أطلق ولم يقيد فالمقصود به السيد كاظم كما أعتاد الفقهاء أن يطلقوا (الشيخ) على الشيخ الطوسي ، و(السيد) على السيد المرتضى .
أجل كان يثني عليه غاية الثناء ، ويطري شخصيته بإكبار واعتزاز ويستشهد بأحاديثه ومشاهداته ووقائعه بتأثر بالغ نظراً للملازمة الطويلة والأنصهار في شخصيته ، وسمعته يقول :
حصل خلاف ـ ذات يوم ـ في مسألة لغوية بين المرحوم الشيخ أسد حيدر وجماعة من العلماء واحتدم النقاش ما بينهم فانبرى الشيخ أسد قائلاً سمعت ذلك من خالي السيد كاظم وهو لا يخطأ في ضبط الكلمات يقول ذلك بثقة وبصيرة وتحدي .
لقد كان السيد المترجم قوي الحجة واسع المعرفة دقيق الملاحظة كما كان من ناحية أخرى جسوراً جريئاً مهيب الطلعة عزيز النفس موفور الكرامة ، ومن شواهد هذا الباب ما ذكره السيد عبد الزهراء رحمه الله أنه قصد عائداً أحد المرضى من معارفه ، فلم يقم المريض احتفاءاً واستقبالاً له ، واكتفى بالسلام عليه وهو على فراشه ، فالتمس له السيد أسباب العذر باعتباره مريضاً لا طاقة له على القيام والمجاملة وبينما السيد في زيارته وحديثه معه إذ دخل عليه أحد موظفي الدولة ، فانتفض المريض من فراشه مرحبا ومستقبلاً ، فما كان من السيد إلا أن وقف على قدميه وخاطبه بلهجة غاضبة قائلاً تعساً لأمك عذرتك لمرضك ، أما أن تقوم لهذا فهل هو أشرف مني ؟! وتركه وخرج .
وكان قوي الحافظة متفتح الذهن ، متوقد الذكاء ، شديد التتبع ولما كف بصره في أيام الأخيرة كان يستعين في مطالعاته وقراآته بمجموعة من الشباب المثقف وخصوصاً الأستاذ دايم الثويني الذي يجيد أكثر من لغة كالإنكليزية والفرنسية بالإضافة إلى لغته العربية ، فإذا ما انتهى وقت المطالعة وحان الموعد الثاني لها يتذكر بكل نباهة ويقظة موضوع المطالعة ، ورقم الصفحة التي انتهوا عندها بل وحتى السطر الذي توقفوا عنده في قرائتهم السابقة .
حدثني السيد جعفر الحسيني أن أخي السيد جبار سأل المرحوم والده بحضوره : لو أردنا أن نقسم المقدرة الخطابية والإحاطة بفنون المنبر على مراحل ودرجات فأين نضع السيد كاظم من اليعقوبي المعروف بشيخ الخطباء بذلك الوقت ، فأجاب السيد إن السيد كاظم أرفع درجة وأعلى مكانة من اليعقوبي لولا أن الأخير أنطلق من النجف واشتهر باشتهار أسمها ، وبقي السيد محجماً في الخضر بعيداً عن ، الأضواء والشهرة .
دراسته:
تتلمذ على يديه ثلة من أعاظم الخطباء وفي مقدمتهم سيدنا الفقيد السعيد السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب ، والخطيب البارع السيد طاهر السيد حسن ملحم الياسري .
وحدثني والدي أنه كان يصطحب السيد المترجم في مجالسه السنوية بمناسبة شهر محرم إلى الناصرية ويقيم معه ، ويقرأ مقدمة أمامه وكان كثير التحدث عن مكارم أخلاقه ، وأنه كان يؤثره على نفسه لاسيما وأن الزمن كان زمن قحط وجوع ، وما ذلك إلا لسمو نفسه وطيب معدنه وتفقده لأرحامه ، حيث تربطنا به قرابة مباشرة عن طريق أمهات آبائنا فهو وأبي ولدا خالة من أختين شقيقتين خالصتين ومن نفس هذا المصدر تنبثق قرابتنا مع السيد عبد الزهراء والسيد طاهر والشيخ طالب حيدر والشيخ أسد حيدر ، وكذلك الحاج مدلول والحاج فاخر وليد الطائي .
وذكره الأخ الفاضل السيد محمد طاهر ملحم في الملف الخاص عن السيرة الذاتية للسيد عبد الزهراء الذي نشرته مجلة الموسم في عددها العشرين لسنة 1994 ، وأكتفى بذكر نسبه وما ترجمه له السيد عبد الزهراء في مصادره ، والشيخ الأميني في معجمه ، فأما السيد في المصادر فعرفه بما يلي :
هو أُستاذي وابن عم والدي ، ولد في سنة 1306 هـ في ضاحية من ضواحي الناصرية حيث كان أبوه مزارعاً هناك ، ونشأ نشأة تلوح منها علائم النبوغ ، وأمارات العبقرية ، وتفرس فيه ذلك صهره العلامة الشيخ محمد حيدر رحمه الله فحثه على طلب العلم ، فهاجر إلى النجف الأشرف سنة 1320 هـ وجّد في الطلب ، وثابر على التحصيل ، وامتهن الخطابة ، وبرع فيها حتى صار موضع إعجاب المستمعين على اختلاف أذواقهم لغزارة علمه وفرة اطلاعه ، ومعرفة بحرمة المنبر ، وتحسسه بأدواء المجتمع ، ومشاكل الناس ، ومهارته في وصف الأدوية الناجعة ، ووضع الحلول النافعة ، بالإضافة إلى عذوبة منطقه ، وجهورية صوته ، ورخامته ، ووقاره المتناهي ، وأتزانه المنقطع النظير ، حتى قال في حقه الإمام الفقيد كاشف الغطاء ، وكانت بينهما مودة أكيدة :
(قلما رأيت مثله في صلابة إيمانه ، وتأثير موعظته) .
وفاته :
توفي رحمه الله في الخامس عشر من شعبان سنة 1370 هـ وكان من يومه مشهوداً ودفن في النجف الأشرف(2).
وكذلك ذكره سيدنا الفقيد في تقديمه لكتاب من لا يحضره الخطيب الجزء الثاني فقال :
ولا يمكنني ـ عرفاناً للجميل ـ الا أن أذكر السيد كاظم الحسيني الخطيب رحمه الله ذلك الرجل الذي صحبته أكثر من عشر سنوات ، واستمعت إليه أكثر من عشرين سنة ومازلت أتذوق قرائته وكان يعرف للمنبر قدسيته وللمجالس حرمتها ، وما رقى المنبر جنباً طول حياته ، وما رقاه بلا وضوء قرابة الأربعين عاماً كما سمعته يذكر ذلك لبعض تلامذته ، ولذا صار موضع إعجاب السامعين لغزارة علمه ... الخ .
ولو أردت أن أذكر محاسنه وعبادته وأذكاره لطال بين المسير ولكن أسجل واقعتين شاهدتهما بنفسي والله شاهد على ما أقول :
رأيته في ليلة عاشوراء جاء إلى أحد المجالس فلم يتخط عتبة الباب حتى أجهش الناس بالبكاء ، وأرتج المجلس بالنحيب فوصل المنبر وقد علت أصواتهم على صوته ، ولم يتمكن من اسماعهم لأنه لم تكن مكبرات للصوت يومئذ ولم يقرأ إلا بيت واحد باللغة الدارجة ، ونزل عن المنبر واستمر الناس بالبكاء مدة من الزمن ليست بالقصيرة .
ثم رأيته في أحد مجالسه في الناصرية ولا أنسى أنها كانت الليلة الحادي عشرة من المحرم ، وهكذا ماج المجلس وهاج حتى رأيت رجلاً أغمي عليه من البكاء ، فحملوه إلى خارج المجلس وما أدري ما حدث له بعد ذلك(3) .
وقال عنه الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني في معجم رجال الفكر والأدب : خطيب عالم جليل متكلّم فاضل ، مثال الورع والتقوى والصلاح ، كثير الدعاء والصلاة .
تتلمذ على علماء عصره ، وكان شديد الاتصال بالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، ووكيله في الخضر ، وكانت له معه مراسلات وقد احتفظ بكثير منها ابن عمه السيد عبد الزهراء الخطيب ، وعاد إلى بلدته (الخضر) وواصل التوجيه وكفّ بصره في السنين الأخيرة ومات سنة 1370 هـ وله : تبويب كشكول البهائي ومجاميع في مختلف المواضيع 1 ـ 6(4) .
وتحدث المرجاني عند عرض ترجمته فقال :
أما أسلوبه الخطابي فو أسلوب منقطع النظير ، يثير إعجاب المستمع ويجوز استحسانه ، ويخلب لبه من أي الطبقات ، هو بلاغة في القول ، وفصاحة في اللهجة ، وحفظ للنصوص ، وشرح للمتون ، وضبط للأسماء ، وبيان للغريب ، وعناية بالوعظ والإرشاد ، فإذا أحس من المستمع كلالا ، جاء بالنادرة اللطيفة ، والنكتة المضحكة ، مما يدخل في تلك الباب ويندرج تحتها ، حتى يعيد للمستمع نشاطه ، أضف إلى ذلك صوته الرقيق فالمترجم كان علماً من أعلام الخطابة ، وبطلاً من أبطال المنابر ، ورجلاً من رجال الإصلاح ، فكان كثيراً ما يرقى الأعواد في بلاده وناصرية المنتفك ، والبصرة والمعقل وسوق الشيوخ وبعض المدن الإسلامية ، وكان كثير الإطلاع والمطالعة حتى أثرت كثرة المطالعة في بصره فأخذ يتنازل تدريجياً حتى كفّ بصره تماماً في سنة 1366 هـ ، ولم يثن ذهاب بصره عن عزمه ولم يقصر من خطوه ، وكان على غاية من الذكاء وسرعة الحفظ(5) .
وإذا أردنا أن نلخص حياته في سطور فنقول أنه :
ولد في قرية من ضواحي الناصرية تدعى (أبو غريب) حيث كانت أسرته مقيمة هناك لظروف عملها ، وقد توفي أبوه بعد ولادته بستة أشهر فرجع أهله إلى موطنهم الأصلي في مدينة الخضر فنشأ في أحضان أخواله آل حيدر وأشرف على تربيته المرحوم الشيخ محمد حيدر والد الشيخ طالب والشيخ أسد حيدر .
تلقى تحصيله العلمي في الفقه والأصول والنحو والمنطق والعلوم الأخرى في النجف الأشرف ، وبعد إكمال الدراسة عاد إلى بلاده وأقام فيها خطيباً مفوهاً مصلحاً . مدفنه :
في الخامس عشر من شهر شعبان من سنة 1730 هجرية وفد عل ربه ، وحمل إلى النجف الأشرف ، وأوى إلى مثواه الأخير في مقبرة وادي السلام ، وقد زرت قبره فيما بعد وقرأت اللوحة التي نحتت بإسمه وتاريخ وفاته ، عندما دفنت والدي إلى جانب قبره سنة 1970م .
وبعد وفاته بثلاثة أشهر توفي ولده السيد علي الذي لم يعقب ولداً ذكراً غيره ووري الثرى بقربه أيضاً وأرخ وفاته الأديب المعروف الشيخ علي البازي رحمه الله :
مـنابر الـحسين قـد ***** بـكت بـدمع سـاجم
فقد الخطيب البارع الـ ***** نـدب أبـي المكارم
وسـجـلت تـاريخه ***** بـرسم عـبد الكاظم
ذريته: انحصرت ذريته في ولده المرحوم السيد علي الذي أنجب أربعة من خيرة الشبان وهم : السيد حسين وقد امتهن الخطابة أخيراً بالإضافة إلى عمله الرسمي في دائرة البريد والبرق والهاتف ، والأُستاذ السيد جابر المدرس في وزارة التربية . والأُستاذ السيد نعمة الذي غدرت به يد الطغيان فأودعته السجون الرهيبة ولا يعرف مصيره إلى اليوم ، وأصغرهم السيد باقر وهو قمة في التهذيب والأخلاق العالية . رحم الله السيد الخطيب وفرج عن ذريته وأبناءه ، ووفقنا لاقتفاء أثره ، والاقتداء بسيرته على خط أهل البيت الطيبين الطاهرين .
(1) ـ مجلة الموسم عدد 17 لسنة 1994 .
(2) ـ مصادر نهج البلاغة واسانيده ، 1 / 217 .
(3) ـ من لا يحضره الخطيب 2 / 18 .
(4) ـ معجم رجال الفكر (2 / 506) .
(5) ـ خطباء المنبر الحسيني الطبعة القديمة ج3 ص38 .