الثلاثاء، 8 يونيو 2010

الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)



الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
مشروع الماضي والحاضر والمستقبل


السيد محمد الياسري



  الكتابة بهذه السرعة وهذا الإقتضاب عن شخصية مدهشة كالإمام جعفر الصادق (ع) مجازفة علمية كبيرة فضلا عن كوني إنسان من طبعي القصور والتقصير لكنني حاولت تحري الدقة في التأمل حول بعض الآفاق الصادقية الرحبة .
وقصة الصادق (ع) قصة مثيرة وحياته مفعمة بالنشاط .. وهي تعلمنا كمعلم صامت أسباب رقي الحضارات وسقوطها .. ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)) يوسف 111.
  وتأريخه كجزء من الماضي صحيفة كبيرة مفتوحة أمام صحيفة المستقبل المطوية وبوعي ذلك القسم المفتوح وإدراك ملابساته ومعطياته يتم التعاطي مع الحاضر وإستشراف المستقبل وتحديد معالم مسيرته .
لكن أغلب الذين تعاملوا مع التأريخ بما فيه تأريخه (ع) غلبت على كتاباتهم مشاهد العرض السردي أو الطابع القصصي وهناك كتابات موسوعية إعتنت بحفظ تراثه وأخرى وصفية دفاعية تنتقي النصوص لتبرز صفات الإمام (ع) وكتابات إنتهجت العرض العبقري أو طرح النموذج البطل الذي لايقارن به أحد .. وهناك جهود تحقيقية وتحليلية ولكنها تجزيئية وليست موضوعية تتعامل مع النص في إطاره المحدود . وإتصفت أغلب الكتابات بغياب الإبداع إلا في محاولات ضلت يتيمة .
لذلك نحن بحاجة الى قراءة التجربة الصادقية قراءة "المشروع الماضي والحاضر والمستقبل" غير العاجز عن العطاء المستمر والنماء المتواصل .
  وإستنطاق تلك التجربة ومحاكاة رائدها الصادق ضرورة ملحة للخروج من أزمة الحضارة التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي المعاصر . وعند التأمل تجد أن مشروعه من أكثر المشاريع قدرة على الاستمرار والريادة لأنه مضافا الى بعده الروحي يتمتع بمرونة تسمح بإستيعاب الصيرورة التاريخية .. وتعطي زخما كبيرا للإجتهاد الذي يثري نفسه بمعطيات التجربة التاريخية .. فالمشروع الصادقي في تحقق مستمر .. وجعفر بن محمد المشروع مثل أعلى مرتبط بالمطلق فاستحضاره ليس حركة تماثلية تكرارية كما هي حركات التأسي والاستحضار للمثل المنخفضة " التي تأخذ بيدها ماضيها الى الحاضر وحاضرها الى المستقبل ليس لها مستقبل في الحقيقة وإنما مستقبلها هو ماضيها " 1 .
  فالدخول الى الحاضر "الحداثة" دون الإنطلاق من الماضي ومن النص الإلهي يلغي شخصية الأمة ، وفلسفتنا للحاضر والماضي أو للحداثة والتراث أن لا تقابل بينهما بل نرى بينهما تفاعلا مستمرا في إطار متطلبات الإسلام وصلاحيته .
وإذا أردنا الآن أن نستحضر نموذجا من مشروع وتجربة وتأريخ الإمام (ع) .. فهي كثيرة منها مشروع الحوار والجدل والمحاججة مع الزنادقة الذين كثروا في زمانه .. وهم إمتداد لتيار إلحادي عميق الجذور .. وعنوان الزنديق يطلق على الدهري والمشرك والملحد والثنوي والأخير كما في القاموس المحيط .. هو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو يبطن الكفر ويظهر الإيمان ـ أو جميع ذلك ـ .
  ومنها تجربته مع علماء السلطة الذين دأبت السلطات الحاكمة على الإستعانة بهم لإيجاد غطاء شرعي يبرر سلوك وتصرفات الحكام المستبدين ولإيجاد واجهات علمية مصطنعة لا تمثل جوهر الدين وحقيقة الإسلام .. وذلك من أجل مواجهة مواجهة الحق المتمثل بحجة الله في الأرض .
  ومن تلك الواجهات كان أبو حنيفة النعمان وإبن أبي ليلى مفتي الكوفة وقاضيها من قبل السلطة .. وغيرهما .
وقد أفشل الصادق (ع) في مباحثاته الفقهية وردوده العلمية مخططات السلطة العباسية وكذلك تجربته مع المعتزلة ومنهم عمرو بن عبيد كبير المعتزلة وواصل بن عطاء .. وغيرهما .
  ومشاريعه العلمية الكبيرة في مجالات الطب وعلم النجوم والبيئة وعالم الطبيعة وعلم الكيمياء وغيرها ..
ولاننسى تجربته مع جبابرة عصره كالمنصور العباسي فمشروعه برمته إعتبره المنصور تهديدا لجبروته فضلا عن إستغلال الإمام الفرص لقول كلمة الحق بوجه ذلك السلطان الجائر وهي أعظم الجهاد كما ورد ..
لذلك كان المنصور الدوانيقي وعصابته الإنقلابية يتحينون الفرص للقضاء على الإمام حتى قتلوه بالسم .
ولديه تجارب أخرى مع الصوفية والمتزهدة الذين حاولوا إغراء الناس بمظاهر التقشف والتزهد كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبّاد بن كثير وغيرهم .
  وإذا أردنا أن نتعدى هذه المشاريع والتجارب ومحطات التأريخ المضيئة لنأخذ واحدا من مشاريعه لنقف مليا ونتأمل في بعض أبعادة ولا أقول ندرسه دراسة حفرية لأن ذلك يحتاج الى وقت أطول ..
  يجذبني كثيرا مشروع "ماضي وحاضر ومستقبل" ويحفزني على تسميته "جيش الأربعة آلاف طالب" .. ففي معمعة الإنحراف الديني والخلقي أنشأ جيشه المظفر حارسا أمينا للكيان الإسلامي .. وتميز جيشه بالإحتراف في شؤون الفقه والآداب والإصلاح الإجتماعي والفلسفة والعلوم مع طابعه الأخلاقي والقيمي ، ليتجند في خدمة الإنسان .
يقول سليمان الكتاني وهو كاتب مسيحي " يكفينا فخرا أن نتباهى بعصر سبقنا بألف وأربعمائة سنة حققت مدينة يثرب ـ والكوفة ـ مالم نتوصل نحن اليوم الى تحقيقه ، ولو أن المنصور الدوانيقي إستجاب لذكرى الإمام وطاوعته بالإستجابة أجيال الأمة المستمرة بنا حتى الآن ، لكان لنا وجود حاضر لأمة تنبذ أمريكا ـ وإسرائيل والتكفيريين ـ فعلا وقيمة ، فيا للحسرة الجسيمة نقولها الآن ونحن صاغرون " .
  "مدرسة إستطاعت أن توفق بين التعارضات التي تجاذبت علم الكلام في الغرب المسيحي كما في الشرق الإسلامي ، فإذا كان ديكارت في الغرب قد حطم الثقافة لمصلحة العقل والغزالي في الشرق أطاح بالثقافة لمصلحة الإيمان " فإن أهمية المدرسة الجعفرية أنها جمعت في علم الكلام بين الثقافة والإيمان وبين الإيمان والعقل ..
وهي ثورة فكرية حضارية شاملة إنطلقت في منتصف القرن الثاني الهجري حين أوصاه أبوه الإمام الباقر (ع) بصحابته فأجاب قائلا "جعلت فداك والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في مصر فلا يسأل أحدا" وقد حقق ذلك في جامعته الكبرى أو "جيش الأربعة آلاف طالب " .
  وكان كل واحد من هؤلاء الطلاب شخصية علمية متألقة وكانت لهم مساهمات جادة وكبيرة في مختلف الإختصاصات والعلوم ..
وقد قال الحسن بن علي بن زياد الوشاء وهو من تلامذة الإمام الرضا (ع) ومن المحدثين الكبار "أدركت في هذا المسجد ـ الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد " كما في فهرست مصنفي الشيعة .
وكان في طليعة هذه الجامعة ـ الجيش ـ في المجال الفقهي النجباء الأربعة زرارة بن أعين وبريد بن معاوية وأبو بصير ومحمد بن مسلم ويلحق بهم أبان بن تغلب ..
  وفي المجال الكلامي هشام بن الحكم ومؤمن الطاق محمد بن علي بن النعمان الأحول .. وفي مجال الكيمياء جابر بن حيان الصوفي الطرسوسي وفي مجال العرفان والسر والحكمة جابر بن يزيد الجعفي وأبي حمزة الثمالي .. وغيرهم.
واليوم ومن منصة هذا المؤتمر أوجه خطابي لعلماء النجف الأشرف والحواضر العلمية الأخرى في العالم الإسلامي بكل تقدير وإحترام .. أقول يا سادتي ومشايخي الكرام أنتم تعتبرون أنفسكم وحوزتكم ومنهجكم إمتداد لمدرسة الإمام الصادق عليه السلام والكثير من المؤرخين قالوا أن جذور مدرسة النجف العتيدة تضرب في العمق أبعد من الفترة التي إنتقل فيها الشيخ الطوسي من بغداد الى النجف فهي إمتداد لمدرسة الكوفة الجعفرية .. فإذا أردت أن أنقد للبناء لا للهدم فإن الإمام الصادق عليه السلام عندما قدم الى الكوفة في العقد الرابع من القرن الثاني الهجري وبقى فيها لمدة عامين وأسس جامعته كان من أبرز سماتها التكامل الفكري والتجديد في المناهج والأساليب وهذا مفقود في حوزتنا اليوم ..
  وإذا كان الإمام قد أدخل الإختصاص منذ ذلك العهد فنحن اليوم أبعد بكثير عن الإختصاص . فلا نعتبر مرحلة تطورية على تلك المرحلة مع أنه قانون طبيعي تفرضه حركة تراكم التجربة .
  وإذا كان مسجد الكوفة الذي إحتضن علوم أهل البيت وأصل المنهج القرآني الإلهي في نفوس الالاف من الطلبة فلا نجد للقرآن منهجا رئيسيا في الحوزة العلمية اليوم فضلا عن العلوم الإنسانية والطبيعية الأخر ..
أما الحديث عن الكوفة ومسجدها اليوم فهو حديث ذو شجون .. فتطوير المؤسسة الحوزوية ضرورة ملحة .. على مستويات النظام والإدارة والمناهج والدور الإجتماعي .. والعالم اليوم يشهد تطورا هائلا وهو لا ينتظرنا حتى نلحق به .. وعقول الناس تتسع بصورة إنفجارية والناس بدئوا يطالبون بالدليل بعد أن كانوا يطالبون بالحكم فحسب .. لأن خطابنا يتعلق في نمط حياتهم وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة ..
  ولابد من الإعتراف الى أننا بحاجة الى بذل جهود إستثنائية لنتقل الى مرحلة الفعل فضلا عن ردود الفعل السريعة لأن ردود الفعل التي نقوم بها متأخرة جدا عما يفرزه العالم الحديث في مختلف الحقول والمجالات .. في حوزتنا نقاط قوة وفيها نقاط ضعف ينبغي تحديدها بصورة دقيقة لنعمل على تحويل الضعف الى قوة.













• مشاركة في مؤتمر الإمام الصادق ع في النجف الأشرف .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق